ملف “انتفاضة القدس”
بهاء الزريعي
الهبة الفلسطينية تقلب المفاهيم
لم تدخل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة، منذ سنة 2014، في مواجه شاملة مع العدو الصهيوني، وذلك استجابة لإطار التفاهمات التي تم التوصل إليها بعد العدوان الإسرائيلي على القطاع في تلك السنة، مع بعض الاستثناءات مثل التصعيد الذي شهدته سنة 2019 بعد استشهاد القائد في الجهاد الإسلامي بهاء أبو العطا ودخول سرايا القدس منفردة في معركة مع الاحتلال راح ضحيتها 36 شهيد في ثلاث ايّام، ولكن هذا الأمر كسرته المطالبات الشعبيّة في القدس برد من المقاومة في غزّة على انتهاكات العدو الصهيوني في المدينة المقدسة.
هتاف “مشان الله يا غزة يلّا”، فعل فعله، إذ وقعت المقاومة تحت ضغط شعبي دفعها إلى الرد من القطاع للمرة الأولى، اسناداً لحراك فلسطيني خارج أسوار غزّة، فاستحالت هبة القدس انتفاضة فلسطينية تجاوزت المناطقية التي لطالما عمد الاحتلال الصهيوني إلى تعزيزها، وتقسيم فلسطين الى كانتونات غارقة في قضايا آنية وليست استراتيجية.
ما بعد المعركة ليس كما قبلها
المتتبع لما كان عليه المزاج الشعبي العام في فلسطين قبل الانتفاضة الأخيرة، سيجد أنّه كان منهكاً وغارقاً في يميات حياته وقضاياه، ولكن بعد معركة “سيف القدس” تبدل هذا المزاج وارتفعت شعبية المقاومة معه.
هذا المزاج لم يتغير بسبب دخول غزّة المعركة فقط، بل ضمن سلسلة من المتغيرات، كان آخرها دخول المقاومة في غزّة المعركة. فالعمليات المنفردة في الضفة الغربية وانتفاضة فلسطينيي الداخل المحتل سنة 1948 أدّى إلى تغيير شامل في الصورة، فيما دخول المقاومة في قطاع غزّة بالسلاح دفع الجانب الإسرائيلي للمسارعة في إخماد النيران المشتعلة في كل فلسطين.
اذاً جاءت المعركة ضمن سياق وطني شامل، وحققت عدّة إنجازات: منذ انطلاق الصاروخ الأول من غزّة سقطت نظرية الردع الإسرائيلية لغزّة وتوسعت رقعة المواجهات لتطال أكثر من 200 نقطة مواجهة على طول فلسطين التاريخية؛ أصبح الشارع الغزّي اكثر ايماناً بجدوى المقاومة المسلحة، حتى مع سقوط ضحايا مدنيين؛ كانت الجبهة الداخلية متماسكة أكثر حيث شعر الجميع أن الحرب لقضية وطنية ليست لقضية حزبية؛ زاد زخم تحركات فلسطينيي الشتات في أماكن تواجدهم وعلى حدود فلسطين مع الأردن ولبنان؛ زاد التعاطف الدولي مع القضية الفلسطينية بشكل عام.
تشير هذه النتائج إلى أن تدخل المقاومة في صالح القضية الفلسطينية بشكل عام، وأعاد اليها ألقها وبث الحياة فيها من جديد.
لقد كان لافتاً التحرك الواسع في الشارع العربي نصرة لفلسطين، بعدما تم تغييبه عن المشهد منذ سنة 2011، وهذا يعني أن الشارع العربي ما زال ينبض بالقضية الفلسطينية على الرغم من محاولات تغييبه وعزل فلسطين عن بعدها العربي، وهذا التطور شد من عضض الفلسطينيين الذين باتوا مقتنعين بجدوى استكمال معركة التحرير، فهم لم يعودوا في المواجهة وحدهم من دون سند شعبي عربي.
وربما من الانجازات المهمة أيضاً، أن الإسرائيليون شعروا بأنهم غير آمنين وأن قيادتهم فشلت في تأمين الجبهة الداخلية، ليس في مستعمرات غلاف غزة فقط، بل في أرجاء فلسطين المحتلة، بعدما طالت الصواريخ طويلة المدى مطاري بن غوريون قرب تل أبيب ورامون في عمق صحراء النقب، هذا الأمر وضع القيادة الإسرائيلية في مأزق أمام الإسرائيليين، فهي لم تستطع شل قدرة المقاومة في قطاع غزة ولم تدمر بنيتها التحتية ومنصات الصواريخ، ولم تتمكن من اغتيال القيادات السياسية والعسكرية التي وضعتهم ضمن لائحة بنك الأهداف، ولم تحمل لجمهورها أي نصر تتغني به، بل زادت من حدّة الانقسام الفلسطيني – الإسرائيلي داخل الأراضي المحتلة منذ سنة 1948، بعدما شارك فلسطينيو الـ 48 بزخم في الانتفاضة الشاملة، وتصدوا ببسالة لاعتداءات المستوطنين وشرطة الاحتلال.
“سيف القدس” في عيون الغزيين
لم تكن معركة “سيف القدس” تحركاً غزّياً صرفاً، بل جاءت ضمن هبة فلسطينية شاملة، جعل الغزّيين يتقبلون الأمر بغض النظر عن حجم التدمير والقتل الذي اختبروه، فهذه المرة لن يدفعون الفاتورة وحدهم، بل شعروا أن ما يجري هو بداية لمعركة التحرير، خصوصاً مع تشكيل غرفة عمليات مشتركة بين الفصائل الفلسطينية المشاركة في المعركة؛ شعروا أيضاً أن الوحدة الوطنية باتت حقيقية وأن إنهاء الانقسام الذي أسهم في تراجع للقضية الفلسطينية، بات أمراً قابلاً للتحقيق.
الهبّة تجسيد لوحدة المصير
لمس الفلسطينيون في الهبة الشعبية الأخيرة ما كانوا يعتقدون أنه بهت منذ سنوات، وهو وحدة المصير في كل أماكن تواجدهم. فعلى سبيل المثال أثاركد الإضراب العام الناجح في 18 أيار / مايو، والذي عم كل أراضي فلسطين التاريخية، تجاوز الفلسطينيين في كافة أماكن المناطقية والهموم الخاصة بكل تجمع، نحو هم جامع وواحد، وأيضاً أوجد هذا الاضراب رؤية سياسية جديدة لدى الفلسطينيين بشكل عام والغزيين بشكل خاص، بوجوب تشكيل قيادة فلسطينية قادرة على احتواء الجميع وغير متفردة في القرار، صحيح أنها رؤية عفوية، إلا أنّه يمكن البناء عليها لتجاوز أزمة القيادة الحالية.
كما شكلت الهبة الفلسطينية تغيير استراتيجي في رؤية الفلسطيني للصراع، إذ الشعور بالعجز عن الفعل لدى الكثيريين، بثقة “القادر على الفعل”، وهذا الأمر اثّر بشكل إيجابي على الكل الفلسطيني، وتعالت الأصوات بعد الهبة الفلسطينية في الداخل لمقاطعة المنتجات والمتاجر الإسرائيلية، وتم التقدم بعريضة لوزارة الاقتصاد في غزة كي تمنع دخول المنتجات الإسرائيلية.
ماذا بعد المعركة؟
على الرغم من أن هناك قناعة بأن ما حصل هو انتصار في معركة ضمن حرب طويلة المدى، وأنه هذه المعركة لم تحسم الحرب ولم تنهي الصراع بعد، وأنها وقعت في ظل ظروف إقليمية وعربية غير مناسبة، لكن ما حصل فتح ثغرة في مسار لتغيير الواقع المسدود، وقدم فسحة ثقة بخوض نضال متعدد الجبهات حتى يمكن أن يحدث التغيير المطلوب.
اذاً هذه معركة انتهت، لكن الحرب مستمرة، فماذا على القوى السياسية الفلسطينية أن تفعل؟
لا بد من ملاحظة أن الانتفاضة الشعبية التي انطلقت في القدس وفي الضفة والداخل المحتل والشتات، اتخذت طابع العفوية من دون تنظيم أو تأطير، وبلا قيادة – ماعدا صواريخ قطاع غزة. لكن العفوية مهمة هنا كونها تمثل مرحلة مهمة على طريق الوعي والتنظيم. وهذا الطريق طويل ووعر وبالضرورة علينا الاستمرار فيه، وبالتالي لا بد من تنظيم التحرك وتأطيره، بما يوفر القدرة على الاستمرار حتى النهاية.
والتنظيم هنا لا يعني حتماً أن يأخذ أشكال وأدوات وسياسات حالية، لا ثقة للشباب الثائر به، ولا بالقيادات التي تنظر لتلك الأشكال، المنفصلة عن الواقع والتي لا تعي أدوات ومفاهيم الشباب اليوم.
لقد أسقط الشباب الثائر خطة مسار مدريد – أوسلو اذي عفا عليه الزمن، وأصبح محل سخرية ورفض من قبلهم، وبات المطلوب مساراً ثورياً يجمع كل الشباب الفلسطيني والعربي، في كافة أماكن تواجدهم، على خطة جديدة بقيادات جديدة تعي متطلبات الشارع الفلسطيني، وأن نجاح الثورة أو فشلها مرتبط بتشخيص سليم للواقع الجديد الذي نشأ.
لذلك على القوى الفلسطينية اجتراح خطط وأدوات جديدة تناسب التطورات، وترتقي إلى ما يقدمه الشباب من أمثولات نضالية، وقدرات عالية، واستعداد عارم للتضحية.
ختاماً، فإن الانتصار الصغير الذي حصل بعد الهبّة الفلسطينية الشاملة، ومعركة “سيف القدس”، يمكن المراكمة عليه كي يكون منطلقاً لتغيير الواقع الفلسطيني.