بقلم: خالد بركات
في وقتٍ تعود فيه القضية الفلسطينية إلى الواجهة السياسية والإعلامية الدولية، ومع تواصل العدوان الصهيوني وإستئناف الكيان سياسة الإغتيالات وما تبعها من ردود فعل فلسطينية، يعلو مستوى التعاطف الشعبي الأممي مع المقاومة المسلحة، وتتقدم المقاومة التي نجحت في تعزيز الوحدة الشعبية وتقوية الجبهة الداخلية، خصوصاً في قطاع غزّة المحاصر.
وعلى الضفة الأخرى ترى منظّمات صهيونيّة “إرتفاعاً خطيراً في معاداة السامية” و”الكراهية لليهود” وتعقد مؤتمرات خاصّة للبحث في هذه “الظاهرة الخطير الآخذة في النمو” كما تقول. فمن الطبيعي أن يسعى أنصار “إسرائيل” إلى تقديم مُبررات لأسباب تعاظم الحركة الشعبية الدولية المناهضة للكيان الصهيوني ومشروعه العنصري الاستيطاني، كما من الطبيعي أيضاً أن تكون هذه الذرائع من خارج سياق الواقع وتطورات الصراع العربي الصهيوني.
وإذا كان هذا كلّه مفهوماً بالنسبة لنا نحن العرب، إلى حد البداهة، فإن قطاعات شعبية أممية بدأت تدرك خطورة المشروع الصهيوني وتتكشف أكثر خديعة “عملية السلام” وفساد نظام أوسلو “في المناطق” وضرورة دعم المقاومة الفلسطينية باعتبارها الخيار الوحيد المتبقي في قبضة الفلسطينيين لانتزاع حقوقهم، أو حمايتها على الأقل من خطر التصفية والتبديد
ونشرت الأكاديمية والصحافية الفلسطينية الأمريكية د. ريما النجار سلسلة مقالات في موقع “كاونتر كيرينتس” واكبت فيها التحضيرات والحوارات التي جرت في مؤتمر “حركة المسار الثوري البديل” في أمريكا الشمالية وما صاحبه من فعاليات سياسية وشعبية،كما رصدت النجار ردود فعل المنظّمات الصهيونية في القارة التي حذرت من “تنامي خطاب العنف والتطرف والكراهية في أمريكا الشمالية عموماً، وفي كندا بشكلٍ خاص”
وتَخلُص مقالات النجار في أن الهجوم الصهيوني المستمر على المسار الثوري البديل يؤكد حقيقة تراجع قدرة التيارات اليمينية المحافظة المُؤيدة للمشروع الصهيوني من داخل قارة أمريكا الشمالية، في وقت نشهد فيه تصاعُد التأييد الشعبي الأممي للمقاومة الفلسطينية المسلحة، الذي انتقل من دوائر “الهمس” أو الرمزية والشعاراتية إلى التعبير العلني الواضح في رفض ما يسمى “قوائم الإرهاب”.
وترى النجار في منظّمات فاعلة تؤيد حركات المقاومة المسلحة مثل “شبكة صامدون” والعديد من حركات التحرر والقوى الجذرية والنقابية والطلابية ساهمت في رفع سقف الخطاب السياسي المؤيد للمقاومة المسلحة من جهة وتطبيع خطاب التحرر ومشروعية العنف الثوري خارج حسابات وأطر تقليدية ضيّقة، وفي المجتمعات التي تحكمها أنظمة الإستعمار الإستيطاني الكبرى مثل الولايات المتحدة وكندا واستراليا وغيرها
أمّا الكاتبة الكندية ماريون قوّاص فكتبت مقالاً في موقع “الميادين نت” بطبعته الانجليزية بعنوان “حركة التضامن تعود إلى جذورها” (5 ايار 2023) تشير فيه إلى حزمة من المتغيرات الجديدة التي طرأت على خطاب تيارات حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني في كندا، وتذكُر قواص ثلاثة حقائق جديدة هامّة: الأولى: سقوط خديعة حل الدولتين، والثانية: عودة الوعي بجوهر الكيان الصهيوني بوصفه مشروعاً استيطانياً عنصرياً في كل فلسطين، وأخيراً: الموقف الداعم للمقاومة المسلحة وشرعيتها السياسية والأخلاقية كأسلوب رئيسي للتحرير
لقد أشار العديد من السياسيين والكتاب إلى “إشكاليات خطاب الناتو” مثلاً، وضعف مبرراته الكثيرة في دعم “المقاومة الأوكرانية المسلحة ضد العدوان الروسي” في وقت تجري فيه مصادرة حق الفلسطينيين وغيرهم من الشعوب في المقاومة ضد العدوان والاحتلال، إذ يجري تجريم قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية وغيرها، واعتبارها “إرهاباً” و “تطرفاً”!
ونشهد في السنوات الأخيرة تراجعاً في قوة “اللوبي الإسرائيلي” داخل الولايات المتحدة وكندا وأوروبا، فالكاتب الصهيوني، ليف سيستن، يقول إن أبرز جماعات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة “تموت بشكل بشع” على حد قوله، ويؤكد في مقالاً نشرته صحيفة (هآرتس) الخميس 5 مايو/ أيار ، أن إلغاء إيباك مؤتمراتها السنوية يُسهِم في “المصير المحتوم” ويبعد المنظمة المعروفة عن “اليهود والأمريكيين، الذين يحبون إسرائيل”(!)
يقول الكاتب “للأسف يبدو أن الحرس القديم الذين كانوا يفهمون سياسات التعامل مع القضايا العامّة، تراجعوا وحل بدلًا عنهم جيل جديد من القيادات الذين سيديرون “إيباك” كشركة تجارية، وربما يدعمون المستثمرين الكبار ليصبح الخاسر الأكبر هو الشعب اليهودي” غير أن تباكي سيستن على تراجع “إيباك” جعله ينسى الأسباب الحقيقة وراء ذلك وهو تغير المزاج العام في الولايات المتحدة وتزايد نقد ممارسات كيانه العنصري. وحقيقة أن “اسرائيل” لم تعد محط إجماع 100% في واشنطن.
إنكشاف طبيعية المشروع الامبريالي الصهيوني من جهة، وبشاعة السياسات العدوانية والإجرامية للكيان الصهيوني (العدوان والحروب المستمرة على غزّة) من جهة أخرى، كشفت خديعة “عملية السلام” خلال العقود الثلاث الماضية. هذا كله صاحبه متغيرات وتطورات نوعية في تنامي قدرة المقاومة في فلسطين ولبنان – تحديداً- وتركيم المزيد من تجربتها العسكرية في مواجهة العدوان. فضلاً عن صعود ظاهرة “عرين الأسود” وكتائب المقاومة في الضفّة، فالشعوب وحركات التحرر، على عكس الدول، لا تتخذ موقفاً سلبياً من العنف الثوري، بل إنها تؤيد مُقاومة وطنية يقظة ومبدعة، هدفُها التحرير، ولا تمارس العنف للعنف. والمقاومة العربية بدأت تظهر اليوم باعتبارها المسار الثوري البديل والوحيد لإسترداد الحقوق في مواجهة مسارات الخداع والأوهام والدجل
يجب التذكير أن شعوب العالم تعرّضت هي الأخرى إلى خديعة (عملية السلام بالرعاية الأمريكية) على مدار ثلاثة عقود، فالضخ الاعلامي وعملية التضليل المنهجي وشعارات التسوية والمفاوضات طالت قطاعات شعبية واسعة. وبعد ثلاثين عاماً على اتفاق أوسلو نرى إنهياراً متسارعاً لمشروع السلطة الفلسطينية الفاسدة في رام الله، ويتصدّع ما يسمى “حل الدولتين” ونشهد صعوداً لتيارات اليمين الفاشي الصهيوني، يُقابلة صُعوداً عربياً وفلسطينياً شَعبياً نقيضاً له.
لقد قدَّمت طلائع الجماهير الفلسطينية والمقاومة المسلّحة في قطاع غزّة، نموذجاً حياً مستمراً حين استطاعت تعزيز الوحدة الشعبية بين الفلسطينيين، وإسنادها بالنار، من خلال ربط قضاياهم وحقوقهم باعتبارها قضية تحرر وطني واحدة، بينما استحالت “الوحدة الوطنية” عبر جولات “المصالحة” الكاذبة واللقاءات العبثية للفصائل الفلسطينية برعاية الأنظمة والمخابرات العربية
كما يجب تذكير أنفسنا أن المقاومة الفلسطينية خاضت معركة “سيف القدس” في 2021 و”وحدة الساحات” في 2022 و”ثأر الأحرار” وغيرها من مواجهات بالصواريخ والرصاص دفاعاً عن الشعب الفلسطيني، وللذود عن القدس والأقصى والمقدسات، والتصدي لسياسة الإغتيالات وجرائم الاحتلال في استهداف الأسرى كما حدث مع الشيخ الشهيد خضر عدنان، وهي- المقاومة- التي تخوض معركة متواصلة يومية وقد أصبحت الصمغ السياسي الذي يحمي وحدة الشعب الفلسطيني، والسلاح الذي يردع العدو ويكبح جماحه
كل ما تقدَّم من تطورات متسارعة سيحمل في أحشائه مخاطر وبشائر كثيرة في وقت واحد، فمن جهة تشكل هذه التطورات في الكيان (بما في ذلك أزمته) تهديداً مباشراً على الشعب الفلسطيني، غير أنها في الوقت عينه تشكل فرصة تاريخية أيضًا إذا أحسنت قوى المقاومة إدارة الصراع، خاصة إذا تسارع التناقض الداخلي في الكيان وشهدنا تغيرات في ميزان القوى الدولي واستمر تراجع قوة الامبراطورية الأمريكية وضعفت قبضتها وتبدلت أؤلوياتها الاستراتيجية، فهذا كلّه سيصب حتماً في صالح الشعب الفلسطيني ومشروعه الوطني التحرري
وأخيراً، فالكفاح المسلح ليس أسلوباً طارئاً أو جديداً على الشعب الفلسطيني، فضلاً على أن العنف الثوري المسلح حق وواجب لكل الشعوب التي تتعرض للإستعمار، وفي الحالة الفلسطينية فإن المقاومة يجب ألا تكون “تكتيكاً” أو خياراً من بين خيارات متعددة للوصول إلى الاهداف الوطنية، بل طريقاً رئيسياً وإستراتيجية ثابتة. فالشعب الفلسطيني يُقدّم التضحيات ويلتف حول المقاومة كصَدَفة قوية صلبة، ويتحمل العذاب في سبيل ذلك، وهو – لا أحد غيره – من يُؤمِّن المشروعية للمقاومة ويوفر لها أسباب وعوامل التطور والصمود والديمومة. فلا حاضنة عربية وأممية شعبية للمقاومة دون توافر حاضنة شعبية فلسطينية أولاً وعاشراً.