خلفية تاريخيّة:
في 15 أب / أغسطس عام 1929، الذي وافق احتفالات الشعب الفلسطيني بالمولد النبوي الشريف نظّمت حركة “بيتار” الصهيونية تظاهرة استفزازية في ذكرى ما يسمونه “خراب الهيكل” التي احتشدت فيها أعداد كبيرة من الصهاينة في القدس، يصيحون “الحائط لنا” وينشدون نشيد الحركة الصهيونية. وفي اليوم التالي قام العرب الفلسطينيون بتنظيم مظاهرة مضادة خرجت من باحات المسجد الأقصى واتجهوا إلى حائط البراق، لتندلع أول ثورة شعبية فلسطينية انطلقت من القدس وامتدت في عموم فلسطين من بئر السبع والخليل جنوباً وصولاً إلى صفد شمالاً.
إن ما جرى في تلك الأيام يكاد يكون “نسخة” مكررة عن ما يجري اليوم في القدس المحتلة: مسيرات صهيونية معادية تطلق شعارات معادية وعنصرية وتنظمها قوى صهيونية ترفع الاعلام الاسرائيلية وتدعو إلى قتل العرب و”تنظيف أورشليم” من سكانها الأصليين.
واذا كان يؤرَخ لـ”ثورة البراق” عام 1929 بوصفها أول ثورة شعبية فلسطينية كبرى ضد المشروع الصهيوني في فلسطين، رغم أنه سبقتها عدة انتفاضات ومظاهرات غاضبة ضد الاستعمار البريطاني والوجود الصهيوني، إلا أنها كانت محطة تاريخية هامّة ساهمت في تشكيل الوعي الفلسطيني والعربي بخطورة المخططات الصهيونية، وكشف دور سلطات الاستعمار البريطاني في تهويد فلسطين، كما شكلت ثورة البراق محطة نضالية وتاريخية جديدة في بناء وتعزيز الهوية الوطنية الفلسطينية. وكان لها دوراً في تعبيد الطريق نحو الثورة المسلحة الكبرى في العام 1936
اعتقلت سلطات الاستعمار البريطاني نحو 900 فلسطيني وزجت بهم في السجون وأصدرت المحاكم البريطانية في فلسطين أحكاما بالإعدام على عشرين عربياً تحول الحكم فيما بعد إلى السجن المؤبد باستثناء ثلاثة هم :عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي الذين واجهوا الشنق بشجاعة قل نظيرها في سجن عكا المعروف بـ (سجن القلعة) يوم 17 حزيران/يونيو عام 1930
أسفرت أحداث “ثورة البراق” عن سقوط 133 قتيلاً صهيونياً و339 جريحاً، فيما بلغ عدد الشهداء العرب 116 وعدد الجرحى 232 ، وذلك حسب تقرير “لجنة شو” التي اعترفت بأن معظم إصابات العرب كانت على أيدي القوات البريطانية
وكان من أثار هذه الثورة الشعبية العارمة أنها شهدت ظهور العلم الفلسطيني، حيث اقترحت صحيفة “فلسطين” بضرورة اتخاذ علم ونشيد، وهو ما سيفتح باب النقاش لاحقا لتصميم العلم الفلسطيني وإلى خطوات نضالية أخرى ساهمت في تشكُل وتعزيز الهوية الوطنية الفلسطينية
كانت سلطات “الانتداب” البريطاني قد احتكمت إلى “عصبة الأمم” (الأمم المتحدة) بناء على توصية “لجنة شو” التي شكلتها الحكومة البريطانية للتحقيق في الأحداث، وكانت اللجنة برئاسة وزير خارجية السويد الأسبق أليل ولفغرن وعضوية نائب رئيس محكمة العدل الدولية الأسبق السويسري تشارلز بارد، وبعد تحقيق قامت به اللجنة، وضعت تقريرا عام 1930، قدمته إلى “عصبة الأمم” أيدت فيه حق العرب الذي لا شبهة فيه بملكية حائط البراق.
وأقرت اللجنة أن للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي باعتباره جزءا لا يتجزأ من مساحة الحرم الشريف، كما تعود للمسلمين ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط، كما أقرت اللجنة أنه لا يجوز لليهود جلب أية أدوات عبادة أو وضع مقاعد أو سجاد أو كراسي أو ستائر أو حواجز أو أية خيمة جوار الحائط لأنه مُلكاً للمسلمين.
الشهداء الثلاثة
الشهيد عطا الزير
من مواليد مدينة الخليل وعمل في مهن يدوية عدة واشتغل بالزراعة وعُرف عنه منذ صغره جرأته وقوته الجسدية، وشارك في المظاهرات التي شهدتها المدينة احتجاجا على الهجرة إلى فلسطين.
الشهيد محمد جمجوم
منحدر من مدينة الخليل أيضا، وقد تلقى دراسته الابتدائية فيها، وعندما خرج إلى الحياة العامة عاش ظلم الانتداب، وعرف بمقاومته للصهاينة ورفضه للاحتلال مثل العديد من أبناء الخليل.
وكان جمجوم يتقدم المظاهرات احتجاجًا على اغتصاب أراضي الفلسطينيين، وكانت مشاركته في الثورات دفاعًا عن المسجد الأقصى مما جعل سلطات الانتداب البريطاني تقدم على اعتقاله.
الشهيد فؤاد حجازي
أصغر الشهداء الثلاثة سنًّا وهو مولود في مدينة صفد، وتلقى دراسته الابتدائية والثانوية في الكلية الأسكتلندية، وأتم دراسته الجامعية في الجامعة الأمريكية في بيروت، وعرف منذ صغره بشجاعته وحبه لوطنه، وشارك مشاركة فعالة في مدينته في الثورة التي عمت أنحاء فلسطين.
وصية الشهداء الثلاثة:
(الآن ونحن على أبواب الأبدية، مُقَدّمين أرواحنا فداءً للوطن المقدس، لفلسطين العزيزة، نتوجه بالرجاء إلى جميع الفلسطينيين، ألا تُنسى دماؤنا المهراقة وأرواحنا التي سترفرف في سماء هذه البلاد المحبوبة وأن نتذكر أننا قدمنا عن طيبة خاطر، أنفسنا وجماجمنا لتكون أساسًا لبناء استقلال أمتنا وحريتها وأن تبقى الأمة مثابرةً على اتحادها وجهادها في سبيل خلاص فلسطين من الأعداء. وأن تحتفظ بأراضيها فلا تبيع للأعداء منها شبرًا واحدًا، وألا تهون عزيمتها وألا يضعفها التهديد والوعيد، وأن تكافح حتى تنال الظفر
ولنا في آخر حياتنا رجاء إلى ملوك وأمراء العرب والمسلمين في أنحاء المعمورة، ألا يثقوا بالأجانب وسياستهم وليعلموا ما قال الشاعر بهذا المعنى: “ويروغ منك كما يروغ الثعلب” وعلى العرب في كل البلدان العربية والمسلمين أن ينقذوا فلسطين مما هي فيه الآن من الآلام وأن يساعدوها بكل قواهم.
وأمّا رجالنا فلهم منا الامتنان العظيم على ما قاموا به نحونا ونحو أمتنا وبلادهم فنرجوهم الثبات والمتابعة حتى تنال غايتنا الوطنية الكبرى. وأمّا عائلاتنا فقد أودعناها إلى الله والأمة التي نعتقد أنها لن تنساها.
والآن بعد أن رأينا من أمتنا وبلادنا وبني قومنا هذه الروح الوطنية وهذا الحماس القومي، فإننا نستقبل الموت بالسرور والفرح الكاملين ونضع حبلة الأرجوحة، مرجوحة الأبطال بأعناقنا عن طيب خاطر فداء لك يا فلسطين، وختامًا نرجو أن تكتبوا على قبورنا: “إلى الأمة العربية الاستقلال التام أو الموت الزؤام وباسم العرب نحيا وباسم العرب نموت)
كانت ثورة 1929 سبباً في زيادة إيضاح ثلاث حقائق أمام الجماهير الفلسطينية والعربية.
الحقيقة الأولى: أن الصهيونية والوطن القومي اليهودي كانا يعتمدان، في الأصل والنهاية، على الحراب البريطانية، ومن ثم تجب محاربة بريطانيا والصهيونية معاً إذا أريد للصراع ضد الصهيونية أن يحقق أهدافه.
الحقيقة الثانية: عدم قدرة زعماء الحركة الوطنية الفلسطينية على قيادة الجماهير في الصراع ضد الصهيونية والاستعمار البريطاني في فلسطين بسبب عدم إدراكهم الحقيقة الأولى، وجهلهم للرابطة العضوية بين الصهيونية والاستعمار البريطاني.
الحقيقة الثالثة: وعي الجماهير بأن الأسلوب المتبع في القتال ضد الصهيونية والاستعمار البريطاني، وهو أسلوب الاحتجاج والتظاهر، غير ناجع، ولا بد من اللجوء إلى استعمال السلاح وتشكيل منظمات مناضلة مقاتلة. وكانت “عصابة الكف الأخضر”* أول منظمة مقاتلة فلسطينية تشكلت إثر أحداث ثورة 1929.
للمزيد من المصادر والمراجع حول ثورة البراق في فلسطين.
https://www.palestinapedia.net/%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-1929-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%82