غسان كنفاني الذي نحيي في الثامن من تموز/يوليو ذكرى اغتياله على يد الموساد، أسس لصورة المثقف المشتبك الذي آمن بالثقافة والإبداع والكتابة سلاحاً فعالاً لا غنى عنه في الطريق إلى فلسطين.
تروي الراحلة رضوى عاشور في كتابها المرجعي عن غسان كنفاني “الطريق إلى الخيمة الأخرى” (دار الآداب، 1977)، أن صديقاً سأل صاحب “عائد إلى حيفا” ذات يوم من العام 1969: “يا غسان، رأيتك تحمل ريشة، ثم القلم، والآن السلاح! ماذا ستحمل في المستقبل؟”. أجاب غسان: “أي شيء أستطيع به الدفاع عن النفس! الريشة، القلم، السلاح، أدوات أدافع بها عن نفسي”.
غسان كنفاني الذي نحيي في الثامن من تموز/يوليو ذكرى اغتياله على يد الموساد، بتفجير سيارته (وكانت معه ابنة أخته لميس) ذات صباح حارق من صيف 1972 في الحازمية على كتف بيروت، أسس لصورة المثقف المشتبك الذي آمن بالثقافة والإبداع والكتابة سلاحاً فعالاً في مواجهة النكبة والمنفى والاحتلال؛ سلاحاً لا غنى عنه في الطريق إلى فلسطين.
اغتيل كنفاني بعد شهرين من عمليّة اللد الأولى في فلسطين المحتلة التي نفذها عناصر من الجيش الأحمر مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. اغتياله كان الخطوة الأولى في استراتيجيّة انتهجها العدو، ولا يزال، لإسكات صوت الوعي الفلسطيني. كانت أول عمليّة اغتيال إسرائيلية من نوعها تستهدف أديباً وصحافيّاً ومربياً.
بعدها كرّت السبحة: وائل زعيتر، محمود الهمشري، عز الدين قلق. وبعد 9 أشهر من تمزيق جسد غسان كنفاني، اغتالت “إسرائيل” القادة الثلاثة في شارع فردان البيروتي: كمال ناصر، وكمال عدوان، ومحمد يوسف النجار.
نعرف كل شيء عن مسيرة كنفاني: لوحات المرحلة الأولى، ثم قصصه ومسرحياته ورواياته وملصقاته. نعرف مقالاته الساخرة ودوره القيادي في “الجبهة الشعبية” إلى جانب جورج حبش ووديع حدّاد… ومساهماته الإعلامية الرائدة، من “الرأي” الناطقة باسم “حركة القوميين العرب”، إلى “الحرية”، فـ”الهدف” -ذروة مسيرته الصحافيّة- مروراً بـ”المحرر” و”الحوادث”.
واليوم، ما زال الكاتب الشهيد يشكّل حالة خاصة لدى الأجيال الجديدة. ما زال مدرسة وقدوة ورمزاً أخفق العدو في محوه 51 عاماً بعد ارتقائه. يكفي أن يتعقّب المرء اسمه في مواقع التواصل ليكتشف حجم التداول بسيرته وكتاباته وأقواله ومواقفه وتعاليمه. تناقلت الأجيال “مرتينة” (بندقيّة) كنفاني، وما زال إبداعه راهناً يخاطب وجداننا الجماعي. لقد علّمنا أن الثقافة لا تنفصل عن السياسة، وأنها أقصر طريق إلى الوعي الثوري.
المسرح أيضاً بقي صنوَ البندقيّة في مسيرة الكاتب والمناضل الجزائري محمد بوديّة، الذي مرّت قبل أيّام الذكرى الخمسون لاغتياله، بالطريقة نفسها التي اغتيل فيها كنفاني. لقد فجّر الموساد سيارته الرينو 16 بتواطؤ من بعض الأجهزة الفرنسية صباح 28 حزيران/يونيو 1973 قرب المركز الجامعي لكليّة جوسيو في باريس (في المكان الذي بني فيه معهد العالم العربي).
القواسم المشتركة بين بوديّة وكنفاني كثيرة، أوّلها راديكاليّة الانتماء السياسي المرتبط بعمق بالثقافة والإبداع. محمد بودية مجاهد جزائري كان أوّل مدير لـ”المسرح الوطني” في الجزائر بعد الاستقلال، ثم غادر الجزائر والتحق بالثورة الفلسطينيّة وصار فدائيّاً في صفوف “الجبهة الشعبيّة” مثل غسان… مواصلاً الكتابة والإبداع، ومديراً “مسرح الغرب الباريسي” حتى لحظة اغتياله (اتهمه العدو بدور تخطيطي وتدريبي في عمليّة ميونخ).
هنا أيضاً نحن أمام مثقف مشتبك لم يفرّق بين الإبداع والسياسة، بل وحّد بينهما مستعملاً كل الوسائل للدفاع عن قناعاته وفكرته، وعن العدالة والحرية، وعن القضية الفلسطينية التي اعتنقها، وكان المسرح، بالنسبة إليه، هو أحد تلك الأسلحة لبناء الوعي، والدفاع عن الوجود، وتوسيع دائرة الانتماء والإيمان لدى الناس.
وأخيراً، جنين! حتّى المسرح في جنين يخيف الاحتلال. بين صور الخراب والتدمير الممنهج التي احتلت الشاشات في الأيام الماضية، وسط لامبالاة الغرب “الديمقراطي”، كان هناك قاعة مسرح.
في جنين المنتصرة، استخدم الاحتلال إمكانياته المتطوّرة وقوته التدميرية الهائلة، ساعياً إلى جرف المخيّم، وتهجير أهله، وتحطيم معنويات البيئة الحاضنة للمقاومة ولمجاهدي “كتيبة جنين”، لكنّه خرج يجرّ أذيال الخيبة، فاشلاً في تحقيق أهدافه، مستنزَفاً على يد مقاومة شرسة، محدودة الإمكانات العسكرية، مطلقة الإيمان والإرادة والجاهزية القتالية.
فجر 3 تموز/يوليو، كان “مسرح الحريّة” بين أهداف الطيران الإسرائيلي في الغارة التمهيدية لاجتياح جنين. من جديد، استهدف العدو “مسرح الحرية” العريق؛ أحد صروح الذاكرة، وأحد المعالم المهمة في تاريخ المخيم.
كان اسمه “بيت الطفولة” حين أسسته المناضلة آرنا مير خميس في غرفة على سطح دار آل الزبيدي عام 1987 مع انطلاق الانتفاضة الأولى. الهدف المباشر كان تأمين التعليم للأطفال الذين حرموا من المدرسة آنذاك، ثم تحول إلى “مسرح الحجر” من وحي “انتفاضة الحجارة”.
حاز الإنتاج الأوّل لهذا المسرح بعنوان “القنديل الصغير”، عن قصة لغسان كنفاني، جائزة عالمية ساعدت في توسيع التجربة وتطويرها، وأثار اهتماماً واسعاً تخطّى حدود الضفّة وفلسطين.
هذا المسرح الذي بات جيباً مقاوماً، وخرّج المجاهدين والأسرى والشهداء، له قصّة مؤثرة وفريدة… هي قصّة مؤسسته آرنا مير خميس (1929 – 1995). آرنا “يهوديّة فلسطينية”، كما كانت تعرّف عن نفسها، مولودة في فلسطين ضمن جالية يهوديّة استقرّت هناك منذ القرن التاسع عشر.
في شبابها الأوّل، كانت آرنا أيقونة “النضال الصهيوني”، قبل أن تلتحق بالحزب الشيوعي وتقترن بأحد قادته، صليبا خميس، وتصبح من أشرس المعادين للمشروع الصهيوني، ومن أعتى المناضلات دفاعاً عن حقوق الشعب الفلسطيني.
كان من الطبيعي أن يهدم الاحتلال “مسرحها”، ولو بعد رحيلها، لدى اجتياح جنين عام 2002، قبل أن يعيد ابنها المخرج جوليانو خميس بناءه ويطوّبه “مسرح الحريّة” تحيّةً لوالدته. نفّذ جوليانو وثائقيّاً عن تلك التجربة بعنوان “أبناء آرنا” (2003)، استعاد فيه صوراً ولقطات ووثائق من الأرشيف ليحكي تلك القصّة الفريدة. الأطفال الذين ربّتهم آرنا كبروا وصاروا فدائيين، بينهم نذكر الأسير زكريا الزبيدي؛ أحد قياديي “شهداء الأقصى” في جنين.
بعض هؤلاء الأطفال السابقين الذين ترعرعوا في مسرح آرنا لا يزال في سجون الاحتلال (مثل بلال السعدي، ونبيل الراعي، وعدنان نغنغيّة، وفراس الشريدة…)، وارتقى بعضهم شهداء تغطي صورهم جدران “مسرح الحريّة”.
ماتت آرنا في أواسط التسعينيات، واغتيل جوليانو قرب “مسرح الحريّة” عام 2011، وتعرض المسرح لعمليات دهم متلاحقة على يد “جيش” الاحتلال، وها هو يُقصف مجدداً خلال العدوان الدموي التدميري الأخير على جنين.
لكن “مسرح الحرية” صار اليوم من صلب ملحمة المقاومة والصمود في جنين التي لا يمكن إزاحتها. هذا الفضاء الرمزي هو تجسيد بليغ لدور المسرح، والثقافة المشتبكة عموماً، في المعركة المصيرية لتحرير فلسطين… على خطى غسان كنفاني.