خالد بركات
شَكّل الانتصار التاريخي للمقاومة الوطنية والإسلامية في لبنان بقيادة حزب الله في أيار 2000 وتحرير الجنوب بقوة السلاح، المُقدّمةَ الصلبة والصاعق المُفجّر لانطلاقة الانتفاضة الفلسطينية المُسلّحة التي عُرفت بـ«انتفاضة الأقصى» أو «الانتفاضة الثانية» في أيلول 2000 التي كبّدت كيان العدو أكثر من 1100 قتيل صهيوني و4500 جريح. كانت معركة مخيم جنين الخالدة في نيسان 2002 إحدى أهم نتائجها ومحطاتها وتجاربها، وحفرت اسمها، كالوشم، في الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني، بكل ما حملته تلك المواجهة المجيدة من الصح والخطأ والدروس والعبر.
لم يتوقّع قادة العدو الصهيوني في حينه أن يُطِل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في حُمّى معركة جنين 2002 يُعلن استعداد المقاومة لتسليم ضابط صهيوني مُقابل فك الحصار عن المقاتلين المحاصرين في المخيم. وجاء في البيان: الإفراج عن الكولونيل الصهيوني في مقابل نهاية فورية للهجمات على المناضلين في مخيم جنين ونهاية للحصار. رفض قادة العدو في حينه هذا العرض.
كان موفاز، وقبله شارون، مقتنعين بأن الجيش الصهيوني يستطيع حسم المعركة التي أطلقوا عليها اسم «السور الواقي». أمّا القوى المعادية ووكلاؤها، كلّها تقريباً، على المستوى الدولي والإقليمي والعربي والفلسطيني فكانت تستعد لإنهاء «مرحلة عرفات» واستجلاب محمود عباس ومحمد دحلان وشركائهما، فيما كان جنرال أميركي ممهور ومعتوه، يُدعى كيث دايتون، يتحفّز إلى إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وعقيدتها، وتصوّر أن في وسعه خلق «فلسطيني جديد» على هواه!
حال الفدائيين في مخيم جنين عام 2002، وفي مقدّمهم القائدان محمود طوالبة وأبو جندل، يُشبه حال الشيخ العربي الثوري، مفجر ثورة فلسطين 1936 – 1939 الشهيد عزّ الدين القسّام ورفاقه الذين قاتلوا في قرية يعبد قضاء جنين حتى الطلقة الأخيرة. ومن تلك المعركة ستأخذ جنين اسمها «جنين القسّام». كانوا في ذاك الزمن، مثل اليوم، يخوضون معركة مريرة وصراعاً مفتوحاً ضد المستعمر الصهيوني الأجنبي. تتعقبهم عيون سلطة عميلة وتابعة صنعها البريطاني وأعطاها مقار «المقاطعات» ثم أطلق عليها «فصائل السلام» ونصّب عليها العملاء بقيادة الباشا فخري النشاشيبي!
مرّت 20 عاماً على معركة مخيم جنين 2002، وطوى المخيم أحزانه وأحلامه وعضّ على الجرح، غير أنّ ثورة الفلسطيني وانتفاضته المستمرة لا تذهب إلا لتعود من جديد. وتظل نار الانتفاضة تتّقد على مهلها تحت الرماد، في المدرسة و«مسرح الحرية» و«دوار أبو علي مصطفى» وتراتيل الصلاة في كنائس جنين ومساجدها، وفي الصور وملصقات الشهداء المصلوبة على الجدران، تستعر… ثم مثل عبوة ناسفة تنفجر. أمّا سياسة «كيّ الوعي» التي أرادها العدو كحالة مستمرة يومية وأبدية فإنها ارتدّت عليه اليوم مع كل قنبلة وطلقة حرّة وصرخة عنيدة انطلقت في معركة مخيم جنين 2023 على يد من كانوا في «اللفة» عام 2002 وبعضهم لم يكن قد ولد بعد.
في هذا السياق تحديداً، تحضر مقولة الشهيد كنفاني: «تحسب أن قصّة ما انتهت وإذا بها تبدأ من جديد» ومثلما لم تنته «قصة جنين 1936 و2002» لم تنته قصة غزة أيضاً، حيث ظلّت المقاومة مثل نحلة عنيدة لا تهدأ، تطور القدرة والتجربة رغم الحصار والعدوان والحروب، فيما كانت الضفة الفلسطينية تعيش حالة غير مسبوقة من «الهدوء» وخيبات الأمل المتراكمة مع سلطة تسمّي التبعية والخيانة «تنسيقاً أمنياً». فالأرض يجري قضمها يومياً على امتداد فلسطين المحتلة من النهر إلى البحر، وتتواصل عجلة الاستيطان، ومع كل مستعمرة جديدة تبنيها بلدوزرات العدو تهدم مقابلها 1000 بيت عربي، تارة بالقوانين الاحتلالية وطوراً بالعقاب الجماعي والمدافع وطائرات الـ أف 16.
وفي الجنوب من جديد، سوف تخوض المقاومة في 2006 معركة كبرى حققت فيها انتصار تموز التاريخي بإسقاط العدوان وأهدافه، ومعه دفنت مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي حلمت به كوندوليزا رايس. ودفعت حاضنتها الشعبية أثماناً كبيرة. ودفعت إلى جانب الأرواح والدماء كل الضاحية الجنوبية ونصف قرى الجنوب
وفي الفترة ذاتها، في غزة، خاضت المقاومة الفلسطينية معركة من طراز جديد غير مسبوق، في مواجهة قوى السلطة الوكيلة للاحتلال. فالعالم لم يحترم خيار الطبقات الشعبية الفلسطينية التي منحت صوتها للمقاومة الفلسطينية في «لعبة الانتخابات تحت الاحتلال» وكلنا نعرف بقية القصة: تبعها ما يسمى «الانقلاب» أو «الحسم العسكري» الذي جرى في قطاع غزة. والحقيقة أنه لم يكن انقلاباً ولا حسماً، بل كان انتصاراً مهماً وجديداً للمقاومة في مواجهة الكيان الصهيوني ومخطط دايتون. ولو بقيت المقاومة الفلسطينية مرتبكة تتفرج على فصول المؤامرة الجارية في السر والعلن لما وصلت اليوم إلى ما وصلت إليه من قدرات تسليحية وقوة باتت تخيف كيان العدو ومن يقف خلفه
تأتي الذكرى الـ 51 على استشهاد الأديب غسّان كنفاني هذا العام مُتزامنة مع انتصار مخيم جنين في معركة المستحيل التي قادها شباب «السرايا والكتائب» ومن يرفضون الرعاية والوصاية. فالفدائي «لا يحتاج إلى رعاية أمه» كما يقول كنفاني
وتأتي الذكرى متزامنة مع خيمة المقاومة المرفوعة على تلّة جنوبية عالية، كشارة النصر، تنشر الوعي والنور والتحدي، وتطل على فلسطين المحتلة، إنها خيمة المقاومة التي تبشر بالعودة والتحرير. وهنا بالضبط تحضر من جديد حكمة المرأة الفلسطينية «أمّ سعد» في رواية كنفاني ومقولتها الثورية «خيمة عن خيمة بتفرق». نعم، فلا يمكن أن تكون خيمة اللجوء والعذاب والذل هي الخيمة ذاتها التي تظلّل الفدائيين، يلتقي تحتها من حملوا أرواحهم على الأكفّ ولا هدف لهم سوى تحرير الأرض والعودة والدفاع عن حقوق شعبهم وكرامته. فخيمة المقاومة تتّسع للجميع… من الجنوب إلى الجنوب
وتأتي ذكرى استشهاد كنفاني (8 تموز 1972) الذي قضى شهيداً في حيّ الحازمية ببيروت مع ابنة أخته (لميس نجم 17 عاماً) لتقول: ثمّة شيء كبير يولد الآن في أنفاق وخيام المقاومة الباسلة في الجنوب وغزة وجنين، وثمّة جسر وعناق يمتدّ بين الجنوب وكل فلسطين؛ خيمة صغيرة ومنها سيولد مشروع التحرر العربي الكبير من المحيط إلى الخليج