مداخلة الرفيق محمد عليان: ذاكرة فلسطين التي تَهزِم العدو الصهيوني
ندوة رقمية نظّمها المرصد الديمقراطي للهجرة والمواطنة
المحور الأول: تعمل “إسرائيل” جاهدة على استهداف ذاكرة فلسطين، وتغيير معالم القرى والمدن، وتغيير أسمائها ومحو آثارها ومعالمها الفلسطينية،تراهن على نفي التاريخ وطمس الحقائق في حين يُصر الفلسطينيون من خلال ذاكرتهم الجماعية على التشبث وحفظ كل تفاصيل الأرض الفلسطينية وجغرافيتها، ومعها كل محطات تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني الغاصب، فأبدع الفلسطينيون في الأدب والشعر والرواية والفنون، قاموا بوشم أيامهم في الذاكرة لإحياء مآساتهم مع المجازر الصهيونية وإخلاصا للمعتقلين والأسرى ووفاءً لروح الشهداء.
ندوتنا هذه تصادف يوم الأسير الفلسطيني الذي يخلده الشعب الفلسطيني أينما وجد يوم 17 ابريل من كل سنة، وقبله ودعنا 30 مارس آذار يوم الأرض الخالد.
الأستاذ عليان كيف لهذه الذاكرة الفلسطينية أن تظل يقظة وحية، وتحفظ طيلة هذه العقود الطويلة كل تاريخ فلسطين في مقاومة الاحتلال، وتضحيات الفلسطينيون والفلسطينيات من أجل حقوقهم التاريخية والمشروعة في العودة وبناء دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس؟
***
بداية اسمحوا لي أن أشكر المرصد الديمقراطي للهجرة والمواطنة على هذه الدعوة الكريمة وإتاحة الفرصة لنا للحديث عن ذاكرة فلسطين التي تهزم الاحتلال الصهيوني الغاشم، وقبل كل شيء اسمحوا لي باسمي وباسم “المسار الفلسطيني الثوري البديل” أن نوجه تحية إجلال وإكبار وعز وتقدير من خلالكم لأسرانا البواسل القابعين في باستلات العدو الصهيوني على صمودهم الكفاحي والأسطوري في مواجهة ظلم واستبداد السجان الصهيوني، ومواجهة ظروف العزل الانفرادي والحكم الإداري، وسياسات التنكيل والتعذيب التي تنتهجها الحركة الصهيونية كل يوم بحقهم، ونرفع لهم القبعة النضالية عاليةً في معركتهم المباشرة والأولى مع هذا الاحتلال الغاصب العنصري الذي حتما سيزول.
كما ونوجه تحية عز وشموخ للأسير العربي اللبناني جورج ابراهيم عبد الله الذي يواجه ظلم وتعسف السجان الفرنسي لقرابة 37 عام بالرغم من انتهاء محكوميته، إلا أنه بقي صامد وراسخ مثل الجبال في الدفاع عن فلسطين وقضيتها العادلة ورفض ويرفض التوقيع على الخطيئة مقابل الإفراج عنه، هذه فرنسا بلاد الحرية والقانون والديمقراطية، ستبقى قضية جورج عبد الله وقضية الأسرى الفلسطينيين وصمة عار على جبين القضاء الفرنسي، وعلى جبين كل مواثيق وحقوق الإنسان الدولية التي أصبحت اليوم حبراً على ورق…. ونقول لهم:لا غُرفة التحقيق باقيّةٌ / ولا زَرَد السلاسل / نِيرون مات ولم تمت روما/ بعينيها تقاتل”.
لماذا بدأنا الحديث عن الأسرى؟
لأن اليوم يصادف 17 نيسان وهو يوم الأسير الفلسطيني الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974، كيوم تضامني مع الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني وحشد التأييد والتضامن مع قضيتهم العادلة، وأصبح هذا اليوم 17 من نيسان يوم الأسير الفلسطيني ويحيه الفلسطينيون في كل مكان من هذا العالم بكشف ممارسات الاحتلال الصهيوني بحق الأسرى أمام الرأي العام العالمي.
ولأنها ذاكرة فلسطين التي تهزم الاحتلال، حيث يوجد الآن 4400 أسير وأسيرة في سجون الاحتلال الصهيوني من بينهم 700 أسير يعانون أمراض مختلفة نتيجة التعذيب والتحقيق، هناك ما يقارب 36 أسيرة من بينهن 11 أم، 10 أسيرات دون سن 18، ويوجد حوالي 140 طفلا قاصراً دون سن 18، وهناك ما يزيد عن 215 أسير استشهدوا نتيجة التعذيب والإهمال الطبي، وهناك أيضاً ما يزيد عن 48 أسير مضى على اعتقالهم أكثر من عشرين عاماً بشكل متواصل.
هذه الأرقام مذهلة وستلاحق كل المتشدقين بشعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في هذا العالم الحر، كيف عالم حر؟ والذين ووقعوا على الميثاق العالمي لحقوق الإنسان لا يردعون إسرائيل ولا حتى يدينونها، ومازالت تمارس انتهاكات بشعة وواضحة وجلية من قتل للأطفال وتشريد للأهالي الآمنين وتدمير للمنازل والمنشآت وحتى الحجر لا يسلم منهم؟ أليست هذه جريمة كاملة الأركان بحق شعبنا الفلسطيني؟، هل يعقل في القرن 21 أن يبقى استعمار عنصري إقصائي وإجلائي في أرض فلسطين المقدسة مهد الديانات السماوية الثلاث، إلى متى ستبقى (إسرائيل) فوق كل القوانين والمواثيق الدولية؟ دون عقاب، أليس هذا يطرح سؤال: عن عدالة الأمم المتحدة ومواثيقها التي تحكم هذا العالم؟ أم أنها الرأسمالية الجديدة بعينها من يدفع أكثر يتحكم في القرار الأممي.
للحديث عن ذاكرة فلسطين التي تهزم الاحتلال الصهيوني الغاشم، يطول الحديث في سردها هنا وتحتاج منا ساعات وساعات، سواء على مستوى الذاكرة الجماعية أو الفردية.
لقد حاول الاحتلال طوال 70 عاماَ طمس معالم القرى والمدن الفلسطينية التي اغتصبها قصرا من أهلها بقوة السلاح، وتشريدهم إلى المنافي والشتات، ولا ننسى هنا مذابح دير ياسين وصبرا وشاتيلا وستبقى تلاحق مجرمين الحرب الصهاينة مدى الحياة، وأن الحقوق لا يمكن أن تسقط بالتقادم.
وبالرغم من محاولات الطمس هذه، إلا أنه فشل في ذلك فشلاً ذريعاً، وبقيت هذه القرى والمدن مغروسة في عقول وأذهان الفلسطينيون يتوارثها جيل بعد جيل ..ومازال أهلنا داخل فلسطين المحتلة عام 48 في خط المواجهة المباشرة معه، يحافظون عليها ويحفظون كل منزل وشجرة بأسماء أهلها، وينتظرونهم للعودة لها.
في ذاكرة فلسطين التي تهزم الاحتلال
هناك إنتاج أدبي مقاوم غزير، يوثق كل هذه المعاناة من نكبة الشعب الفلسطيني، حيث مازال أدب وفكر غسان كنفاني ورسومات ناجي العلي وشعر محمود درويش يجوب هذا العالم بالتعريف بالقضية الفلسطينية، ويفضح جرائم الاستعمار الصهيوني بحق أبناء شعبنا الفلسطيني.
من ذاكرة فلسطين التي تهزم الاحتلال، هو إحياء ذكرى يوم الأرض الفلسطيني، والذي يأتي إحياءً لذكرى الشهداء الفلسطينيين الستة( نذكر منهم الشهيد البطل خير ياسين من عرابة، وخضر خلايلة، ومحسن طه، ورأفت الزهيدي) الذين سقطوا برصاص جنود الاحتلال الصهيوني داخل أراضي 1948، في 29 مارس/آذار 1976، خلال احتجاجات على مصادرة سلطات الاحتلال الصهيوني مساحات واسعة من أراضيهم.
ويختلف عن يوم الأرض العالمي الذي يصادف 22 أبريل/نيسان، والذي يهدف لنشر الوعي والاهتمام بالبيئة الطبيعية لكوكب الأرض.
إنّ الشعب العربيّ الفلسطينيّ في عمومِ فلسطين المحتلّة، وعلى امتداد الشتات والمنافي، يقف في ذكرى يوم الأرض من كلِّ عام ليجدّدَ العهد والوفاء للشُّهداء والجرحى والأسرى، وليؤكّدَ تمسُّكَه بوطنه فلسطين، كلِّ فلسطين، من النَّهرِ إلى البحر.
إنّ يوم 30 آذار /مارس من العام 1976 سيظلّ “علامةً ثوريّةً مضيئةً لا تُمحى من تاريخِ وذاكرة شعبنا المناضل، ومن مسيرتِه الكفاحيَّة الطويلة من أجل التَّحرير والعودة والخلاصِ من قيود الاستعمار الصهيونيّ، حيث تقدَّمتْ الجماهيرُ نحو ميادينِ المواجهة المباشرة مع قوّات العدوّ، في إصرارٍ وبسالةٍ وشجاعةٍ قلَّ نظيرُها، تُذكِّر العدوَّ والصديقَ أنَّ جماهيرَنا العربيّة في فلسطين المحتلّة عام 48 كانت ولا تزالُ تتقدَّمُ الصفوفَ الأماميّة في مواجهة المشروع الاستعماريّ الصُّهيونيّ الاستيطانيّ العنصريّ.
أصبح يوم الأرض، في الذاكرة الفلسطينية، رمزا لثوابت وحقائق فلسطينية، وباعتبار أن الأرض كانت وما زالت تشكل أساسا وجوهرا للصراع مع الاحتلال الصهيوني، وباعتبار أن الجغرافية الفلسطينية تستمد صمودها من الشعب الفلسطيني، وتستمد قوتها من شواهد التاريخ، والرسالة الأكبر ليوم الأرض: «لن تستطيع أي قوة على وجه الأرض أن تقضي على الهوية الفلسطينية التاريخية والجغرافية .
ولا تزال الذاكرة الفلسطينية، وفي الذكرى 45 ليوم الأرض، تستعيد مشهد يوم الانتفاضة الفلسطينيّة، والتي حدثت في الثلاثين من شهر مارس/ آذار عام 1976.
وأُعلن في ذلك اليوم الإضراب الشامل، وانطلقت المُظاهرات الشعبيّة في كافّة أرجاء المدن والقرى الفلسطينيّة، من البحر إلى النهر، احتجاجاً على سياسة دولة الاحتلال التعسفيّة، والتمييز العنصريّ، ومُصادرة نحو 22 ألف دونم من أراضي القرى العربيّة في منطقة الجليل الأوسط، وذلك في التاسع والعشرين من شهر فبراير/ شباط عام 1976، وكان من ضمنها أراضي عرابة، وسخنين، ودير حنا، وعرب السواعد، وغيرها؛ لأجل تحصينها وإقامة المُستعمرات (المستوطنات) وِفق نطاق تهويد الجليل.
لقد شاهد العالمُ كلُّه كيف خرجتْ، قبل أسابيع قليلة فقط، الآلافُ من جماهيرِنا الباسلة تلتقي على أرضِ مدينةِ أمِّ الفحم، بقيادةِ أجيالٍ فلسطينيّةٍ جديدة، لتقولَ في صوتٍ واحد: “هذه الأرضُ لنا… هنا باقون وصامدون!” ورأينا كيف تقدَّمتْ طلائعُ الشباب الثوريّ الفلسطينيّ لمواصلة مسيرة النضال الوطنيّ والاجتماعيّ من جديد، وهي ترفعُ علمَ فلسطين ورايةَ الشعب فوق المآذنِ والكنائس والتلال وأعمدة الكهرباء.”
لقد أدركَ شعبُنا المناضل، بحسِّه التاريخيّ الواعي، وبالاستناد إلى تجربته التاريخيّة الطويلة، أنّ ما يكابدهُ يوميًّا من عذابات، وما يواجهه من تحدّيات، ومنها العنفُ الداخليّ، له صلةٌ مباشرةٌ بواقع الاحتلال الصهيونيّ ومؤسَّساته ومنظومته الاستعماريّة، وهو نتيجةٌ طبيعيّةٌ لفشل البرامج والقوى الليبراليّة في تغييرِ واقعِه السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ.
نحيي الموقفَ الوطنيَّ الشجاع لجماهيرِ شعبِنا الصامدة في النَّقب والشيخ جرّاح التي تتصدّى يوميًّا لسياسة مصادرة الأرض وهدمِ القرى والبيوت.
وندعوا إلى تعزيزِ صمود أهلِنا في كلِّ ديارِ بئرِ السَّبعِ وقُرانا المحتلَّة، وإلى المشاركة الواسعة في الفعّاليّاتِ التي ينظِّمُها المسارُ الفلسطينيُّ البديل لكشفِ المخطَّطات الصهيونيَّة الاستيطانيّة التي تستهدفُ أرضَنا وشعبَنا في النَّقب.
المحور الثاني: تواجه القضية الفلسطينية استهدافات متزايدة لتصفيتها، ويوم بعد يوم يتأكد التعاون الوثيق والتواطؤ المكشوف، بين الإمبريالية الأمريكية بالخصوص، والكيان الإسرائيلي الذي يتمادى في التنكيل بالشعب الفلسطيني وسرقة أرضه وتوسيع مشاريعه الاستيطانية.
الأستاذ عليان: ما هو تقييمكم لهذا الوضع العالمي الذي تستثمره إسرائيل لصالحها ؟
نعم صحيح.. أن القضية الفلسطينية تواجه استهدافات متزايدة لتصفيتها، ولكن هذا لن يحصل على الإطلاق، لسببين اثنين، الأول: لأن الشعب الفلسطيني لم يُفنى ومازال يدافع عن أرضه وقضيته العادلة، والسبب الثاني: لأن الشعوب العربية لم تمت فهي مازالت حية وقلوبها نابضة بحب فلسطين، وللصبر حدود، ولاحظنا عبر مضي أربعة عقود على توقيع اتفاقية الاستسلام العربية بين مصر وإسرائيل، واتفاقية وادي عربة بين الأردن، وإسرائيل، أن شعوب هذه المنطقة لم تستسلم ولو لمرة واحدة، وبالتالي تبث فشل هذه السياسات.
نحن اليوم أمام أنظمة رجعية عربية مستسلمة واضحة المعالم، تسعى إلى التأثير في الموقف الدولي، ليس انطلاقاً من إستراتيجية خاصة بها، وإنما تأثيرها يأتي على ضوء رؤية سطحية للعلاقات الدولية، مستهدفةً الحصول على حسن تسوية ممكنة في حدود ما تسمح به الحركة الراهنة للعلاقات الدولية، ولأنها لا تعرف عن بقية مدى اتجاه الحركة الراهنة للعلاقات الدولية، فإنها في محاولتها التأثير فيها من أجل أحسن تسوية، سرعان ما تتخبط وتتبدد القوة الذاتية في المحاولات العشوائية التي تجعل المنطقة العربية أكثر قابلية لتقبل أسوء تسوية ممكنة ( حالات التطبيع).
ما نود قوله أن هذا النهج الوصفي إلى أبعد الحدود التي تنتهجه أنظمة الرجعية العربية، لا يرى إلا السطح ولا يراه إلا في اللحظة الآنية، إنه ينظر إلى الموقف الدولي باعتباره العامل الرئيسي الحاسم في تشكيل الموقف المحلي الخاص، وليس مجرد عامل خارجي مساعد أو معاكس لتحقيق إستراتيجية خاصة.
ويستند دعاة هذا المنهج للأسف الشديد إلى المثقفين السياسيين ( سبب المشكل الحقيقي اليوم)، الذين يعتمدون في أفكارهم على نظرية اتخاذ القرارات العقلانية، ونظرية المباريات الإستراتيجية الدفاعية، وهي نظريات أكاديمية تستهدف تحليل استراتيجيات الخصم وطرح الخطط البديلة للوقاية منها، وهي تفترض أن أقصى ما يمكن فعله هو تقليل الخسائر، لا تحقيق أهداف إستراتيجية.
إن عماد هذه النظرية هو توقيع أسوء الاحتمالات، وإعطاء العدو أعلى تقييم ممكن لقواه الحالية، وبالمقابل إعطاء أقل تقييم واقعي لقوانا الذاتية.
ويقوم أصحاب هذا المنهج بحساب القوى بأعداد الجنود والمدافع والطائرات، والأوزان الدولية الحالية، ويبرر هؤلاء المنظرون ذلك الموقف بالعقلانية والحساب الواقعي، وضرورة الحفاظ على الموارد المتاحة.
لقد تخطى مخططو العدو الصهيو أمريكي هذه النظريات الكلاسيكية التي ورثها بعض المثقفين العرب.
بل أصبح عماد الفكر الاستراتيجي الامبريالي المعاصر هو الفكر الهجومي الديناميكي غير المباشر لما يعرف بحروب الجيل الرابع، الذي يقوض انهيار الدولة من الداخل، لا الدفاع الاستاتيكي التي تنتهجه الرجعية العربية اليوم.
إن هذا المنهج الرجعي، لا يأخذ في الحسبان، أن موازين القوى الخارجية تتغير ديناميكياً باستمرار، وأنه بالرغم من بعض النكسات والارتدادات الجزئية، فإن الميل العام لموازين القوى العالمية يظل لمصلحة الشعوب، ولغير صالح قوى الامبريالية، وأن القوة الذاتية يمكن تفجيرها ومضاعفتها بالعمل الثوري الفعال والسليم، وهو ما نحن بحاجة ماسة إليه اليوم.
إن المنهج الذي يحاول أن يساوي قضية الإنسان الفلسطيني، وبين حقوقه التي أقرها قرار مجلس الأمن من العام 1967 (قرار 242) لهو نهج تضليلي أو غبي حتى الكعب.
إن مشكلة الشعب الفلسطيني مع الاضطهاد الصهيوني ليست بحاجة إلى مفاوضات جديدة، أو إلى إثباتات جديدة، ولا هي غائبة حتى عن عقول الأطفال بحيث تحتاج إلى نقاش ومشاريع استسلام (تسوية)، بل لا تحتاج إلى نقاش من الأصل، فالأرض ملك الشعب العربي الفلسطيني، ليست ملك لقطاء وغرباء جاءوا من أوغندة ومن أوربا الاستعمارية.
لقد حمل شعبنا الفلسطيني على كاهله قضيته العادلة منذ الانتداب البريطاني على فلسطين، ورفض الانصياع لتنفيذ مخطط الصهيونية الممهور بوعد بلفور سنة 1917، وهو اليوم يناضل بكل شراسة وعنفوان ضد الهجمة الصهيونية وتحالفها الوثيق مع الامبريالية العالمية بقيادة أمريكا والتي تتقاطع مصالحها مع الرجعيات العربية، ولم يتوقف يوماً واحداً لاستعادة أرضه وبناء دولته الديمقراطية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
المحور الثالث: يقول أحد الفلسطينيين في تقييمه لأوضاع المنطقة وضمنها فلسطين، أن للفلسطينيين معضلة واحدة وهي الاحتلال الإسرائيلي، ولابد من التخلص منه، أما صفقة القرن وقرار الضم والتطبيع العربي فهي تحصيل حاصل لاحتلال فلسطين، وإذا استمر الاحتلال قد يأتي بما هو أسوء، أما إذا انتهى الاحتلال انتهى معه كل هذا .
الأستاذ عليان: إنهاء الاحتلال وتحرير الأرض والإنسان الفلسطيني، يملي على الفصائل الفلسطينية تحديات كبرى، حبذ ا لو تتفضلون بتنوير الرأي العام ومتتبعينا ومشاهدينا بتطورات النضال الفلسطيني، وخصوصا من داخل مؤتمر المسار الفلسطيني البديل؟.
بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 بين مصر والكيان الصهيوني، بدأنا نشهد مسلسل جديد من الهزائم والتوقيعات، حيث تم عقد “مؤتمر مدريد للسلام ” وما اطلقوا عليه “المفاوضات المتعددة والثنائية” والتي أفضت إلى توقيع اتفاق أوسلو الخياني عام 1993 بين منظمة التحرير والكيان الصهيوني مقابل سلطة للحكم الذاتي المسخ لإدارة شؤون طبقة المال و” ثوار الأمس” الذين استراحوا وأراحوا الاحتلال من مسؤوليته أمام المجتمع الدولي في إدارة شؤون الناس وبالتالي قلّت تكلفته وهي النتيجة المؤلمة والقاسية والمريرة، بالفعل ذابت كل فصائل العمل الثوري الفلسطيني في تلك اللعبة وأحالت معظمهم على التقاعد حسب خطة الجنرال الأمريكي كييث دايتون وأصبح يتحكم بقرار معظم الفصائل ثلة من الوصوليين والانتهازيين.
وجاء توقيع اتفاق وادي عربة عام 1994 بين الأردن والكيان الصهيوني في العام الموالي، ناهيكم عن الاتفاقيات السرية الغير معلن عنها مع أطراف عربية أخرى على أساس تجاري وأمني وما إلى ذلك من مصالح في العلاقات، وليس آخرها اتفاق البحرين والإمارات والسودان عام 2020، رغم هذه الصورة المأساوية والسوداوية نوعا ما، إلا أن هناك مقاومة مضادة لهذا كله ولم تتوقف أبداً وستبقى دائماً تشع نوراً وسط هذا الظلام في مواجهة المشروع الصهيوني وأدواته الرجعية أمثال منظومة كامب ديفيد، ولا بد من مراجعة عميقة وجذرية مع الذات للإجابة على سؤال حري بالتأمل: لماذا فشلت كل جهود القوى التقدمية والقومية في هذا العالم العربي لوضع حد لهذا المشروع العنصري؟.
وفي اعتقادنا أن هذه القوى لم تدرك جيداً طبيعة هذا المشروع الاستعماري ويغيب عن أذهانها هذه الرؤية في التحليل وتقدير الأمور، المسألة الثانية لم يتكون البديل الثوري الحقيقي لمواجهة هذا المشروع على مدار الأربعة عقود من توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ولأن التعبئة والتنظيم وحشد الجهود الفاعلة كانت بغير المستوى المطلوب أمام استسلام الرجعية العربية أولاً وتقدم المشروع الصهيوني ثانياً، مما يجعلنا نتأمل بجدية في واقع التجربة الحزبية والتي لا بديل عنها إذا كانت سليمة وصحية، ولكن ما يلاحظ اليوم بأنه ينتابها حالة من الترهل والتراجع بسبب عجز وصول الأجيال القادمة إلى معمعان العمل الثوري والسياسي، وأصبح الحزب الثوري طارد للكفاءات، على المستوى الفلسطيني والعربي، ولا يوجد حزب طليعي في هذا الوطن العربي اليوم قادر على المواجهة الحقيقية، وقادر على تنظيم وحشد كل الطاقات الشابة ليكون بمثابة المستوى المنوط به.
إذا كان هذا غير موجود فما بالكم عن الإستراتيجية العربية مقابل الإستراتيجية الصهيونية فهذه أيضاً منعدمة تماماً، لماذا أصبح تحرير فلسطين مسؤولية الفلسطينيين وحدهم بعد قرارات قمة الرباط عام 1974؟ أليس هذا من أجل تمرير مشروع سياسي هو مشروع كامب ديفيد الذي نعيش نتائجه الكارثية اليوم كمشروع انهزامي واستسلامي، لماذا تم شطب الإستراتيجية الفلسطينية التي هي أساس اقتلاع هذا المشروع؟ لماذا أصبحت منظمة التحرير على الهامش؟ لماذا شُطب الميثاق الوطني الفلسطيني الذي هو أساس عمل الإستراتيجية الفلسطينية القائمة بينها وبين العدو؟ لماذا يُرفع شعار في كل الفعاليات الوطنية تحت عنوان: ” تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية ” ؟ أليس هذا بسبب تلك القيادة السالفة الذكر، والتي بقيت في ممارستها للحكم حتى الموت؟!
من أجل ذلك كله لا بد أن تتشكل رؤية ثورية جديدة تكون بداية التغيير الجذري لهذا المسار الانهزامي وبالفعل هي تتشكل الآن، وعاقدة العزم حتى تكون البديل الثوري الحقيقي لما بعد المؤتمر، بل يجب أن تخرج من بين هذا الركام لتعيد للقضية الفلسطينية وهجها وإشعاعها المطلوب، لم لا تتحقق نبوءة غسان كنفاني التي عبر عنها في ندوة ثقافية على إثر هزيمة عام 1967 عندما قال” إن ما يحدث الآن ليس المخاض ثمة شيء عظيم يولد بين ركام الهزيمة، مثلما يولد بركان من تحت الشظايا الباردة لجبل مهجور، فالجرح إذا انفتح في جسد ميت لا يؤدي إلى أي اهتزاز، ولكنه إذا ما انشق في جسد حي زاد قابليته للمقاومة، وحرك القوة الكامنة في أعماقه وضاعف من طاقته على الرد، وهذا الجسد العربي الذي تلقى الجرح يتحرك يبرأ ويتحفز ويقاوم، ويضاعف طاقة حواسه، ويقف على قدميه الصلبتين، ليعبر جسر العذاب“،
هذه الرؤية كانت قائمة ولم تنقطع بتاتاً على مدار الأربعة عقود سالفة الذكر لكنها لم تستجمع قواها لتكون بمثابة قوة واحدة لتغيير هذا المسار الانهزامي، الذي انعكس على الحالة العربية والفلسطينية على وجه التحديد، وباتت الجماهير مقهورة ومحبطة من جراء ذلك، وزاد الفقر والبؤس والجهل في وسطها وسادت حالة من الاستسلام والجمود، وعدم التنظيم نتيجة لممارسة القيادة والانسياق وراء مسار مدريد ـ أوسلو مقابل الحفاظ على مناصبهم أكثر فترة ممكنة والوقوف سداً منيعاً في وجه الأجيال الصاعدة.
المسار الثوري البديل:
لقد جرى الإعلان في نوفمبر من العام المنصرم عن مؤتمر المسار الفلسطيني البديل من قبل مجموعة من المثقفين الأغيار على قضيتهم وقضية العرب المركزية، والدعوة إلى لقاء يتزامن مع مرور 30 عاما على مؤتمر مدريد التصفوي، أو ليست الثورة الحقيقية تبدأ كفكرة ثم يحملها الثوار على أكتافهم لإنجاحها وترسيخها على أرض الواقع وبالتالي تبدأ عملية التغيير الثوري؟
أعتقد أن مجرد فكرة الإعلان عن مؤتمر المسار البديل لن ترعب سلطة أوسلو وبعض الرجعيات وحسب ، بل تربك وتزعزع كل أركان منظومة كامب ديفيد – وادي عربة – أوسلو – وداعمي المشروع الصهيوني أيضاً.
إن تطبيقها الفكرة على أرض الواقع يحتاج إلى سنوات من النضال والبناء الفعال والقوي ويحتاج إلى الوقت والإبداع في تجميع طاقات الشعب الفلسطيني والعربي وحتى حشد معسكرنا الأممي، والعمل بجدية فائقة على جبهة التضامن العالمي، وهذا لا يقتصر على الجبهة الفلسطينية بل ينسحب على الحالة العربية التي تحتاج إلى دعم حركات التحرر في العالم من أجل استنهاضها من جديد، وفق برنامج متوازي ومتداخل.
نعم الشعب الفلسطيني بحاجة ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى لمسار فلسطيني ثوري بديل يستجمع فيه كل قواه الكامنة وطاقاته على النهوض من جديد ليفاجئ الجميع، ويخلط كل الأوراق ويسترجع منظمة التحرير الفلسطينية إلى سابق عهدها بميثاقها الوطني الفلسطيني الذي تم شطبه، والذي هو أساس إستراتيجيته العملية المطلوبة للتحرير والعودة.
ولكي ينجح هذا المسار ويكون بمثابة الصاعقة على الكيان الصهيوني وكل الرجعيات، يجب أن يكون هناك تنظيم وتعبئة لحشد كل الطاقات الشابة وفق رؤية وبرنامج عمل يستقطب الجيل الفلسطيني الذي ولد في الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، الذي هو مطالب اليوم بأن يكون الواجهة الحالية ويستعيد دوره الذي سلب منه، فمن حقه أن يعمل ويقول ويمارس دوره ومسؤوليته، إنه حقه الطبيعي والشرعي حسب صيرورة التاريخ، وعمره الآن 36 عام، أيضاً الجيل الذي ولد في الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 وعمره الآن 20 عاما هو مطالب أن يمارس حقه المساند للجيل الذي قبله وينتظر ممارسة دوره في القيادة، هكذا يجب أن تكون الرؤية على أسس طبيعية وديمقراطية سليمة تؤدي في نهاية المطاف إلى ما أسماه غسان كنفاني ” التبديل القيادي في الثورة ” وتداخل الاجيال لنجاح هذا المسار، وهو ليس بديلا عن منظمة التحرير وفصائلها لكنه بديلا عن رؤية العجز والقيادة المهزومة التي أوصلت القضية الفلسطينية إلى هذه المرحلة، انه بديلا عن من يتشدقون بالواقعية السياسية ويقولون أن العامل الموضوعي لا يسمح بمثل هكذا رؤية.
أليس العامل الذاتي هو الأساس ومحصلة طبيعية للعامل الموضوعي؟ وهو عبارة عن ذوات فاعلة قلبت الموضوع رأساً على عقب، لماذا لا يكون الشعب الفلسطيني فاعلا يؤثر في المنطقة والإقليم والعالم كله؟، أليس هو صاحب قضية عادلة؟، ولهذا نأمل أن يكون المسار الفلسطيني البديل قوة فاعلة وموضوعاً مؤثراً كبداية نحو الهدف الصحيح : إزالة وتفكيك المشروع الصهيوني وأدواته من فلسطين ومن قلب هذا الوطن العربي الكبير لينعم شعبنا مثل سائر وبقية شعوب العالم، بالحرية والتقدم والكرامة.
وعلى ضوء ما سبق، ندعو جماهيرَ شعبنا الفلسطينيّ، وكافة المنظّمات والحركات الطُلّابيّة والشبابيّة والنسائيّة والمُؤسّسّات الأهلية والشعبيّة في عُموم مناطق الشتات، إلى الوحدة والتعاون والمشاركة الفاعلة في إطلاق أوسع حَراك شعبيّ، فلسطينيّ وعربيّ وأمميّ، يَقطع مع قيود المرحلة السابقة ونهج مدريد – اوسلو ، ويؤسِّس لمرحلة جديدة، من خلال المشاركة الجماهيرية الواسعة في “مؤتمر كلّ فلسطين، كل الشعب، كل الحقوق .. مُؤتمر البَديل الوطنيّ الشعبيّ والديمقراطي.”
لِنُشاركْ معًا في صُنع هذه المحطة التاريخيّة التي نأمل أن تكون قاعدةً شعبيةً لانطلاقةٍ تُجدِّد دماءَ الحركة الوطنيّة في الشتات، وعلامةً فارقةً في تاريخ شعبنا، على طريق تحقيق كامل أهدافنا وحقوقنا في التحرير والعودة، لنُعِد الاعتبارَ إلى المبادئ والقيم الإنسانيّة الثوريّة في تجربتنا الوطنيّة، ولنعزّزْ قيمَ العمل التطوعي والتضحية والتكافُل والمُساواة.
وفي ذكرى وعد بلفور المشؤوم يوم 2 نوفمبر 2021 ، اليوم الأخير من مؤتمرنا ، ستنطلق مسيرةٌ شعبيّة حاشدة نحو السفارة البريطانية تحت شعار : لَنْ يَمُرّ مشروعُكم الاستعماريّ في فلسطين… لن ننسى ولن نغفر!
وفي ذكرى مؤتمر مدريد التصفويّ سنصرخ بصوت موحد: لَنْ يَمُرّ مشروعُكم الصهيونيّ الاستيطاني العُنصري في بلادنا.
لا بديل عن فلسطين إلّا فلسطين المُحرّرة من النَهر إلى البَحر
المَجد والخلود للشهداء
الحُرية للأسرى والأسيرات
عاش نضالُ شعبنا الفلسطيني في كلّ مكان
لنُواصلْ طريقنا نَحو التحرير والعودة
معًا نَنَتصر، ولا نَنَتصر إلّا معًا
* محمد عليان: باحث واكاديمي فلسطيني. عضو اللجنة التحضيرية العامة لمؤتمر المسار الفلسطيني البديل