المسار الثوري: من العفوية إلى التنظيم والرؤية الواضحة
بهاء شاهرة رؤوف.
إنّ المتابع لمسيرة “الثورة الفلسطينيّة المعاصرة” يرى التحوّلات الجذريّة الكبرى التي عصفت بها ولا زالت تؤثّر على مسارها العام، فبعد خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان إثر الإجتياج الإسرائيلي عام 82 ، تاهت سفينة الحركة الوطنيّة الفلسطينية وفقدت بُعدها الجغرافي الأهم – بعد ساحة الأردن – ركيزتها القوية في لبنان. وكان الخروج من لبنان، وبالطريقة التي جرى فيها، يوضّح الخطأ الجسيم الذي إرتكبه قيادة المنظمة والتنظيمات الفلسطينيّة عموماً في صراعها مع الاحتلال الاسرائيلي وفي علاقاتها مع محيطها، وتحديداً تبني سياسة العفويّة والتلقائيّة والارتجالية، بديلا عن التنظيم والتخطيط في إدارة الصراع وبناء مداميك حركة المقاومة الفلسطينية.
إن هذه العفويّة التي أصابت الحركة الثوريّة أدّت فيما بعد إلى زيادة الإنقسامات الداخلية التي بدأت في العام 1974 مع طرح ما يسمى “الحل المرحلي” ومع طي صفحة الهيئة العربيّة العليا (برئاسة الحاج أمين الحسيني) واعتبار م ت ف الممثّل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وصولاً إلى مؤتمر مدريد 1991 ومسار أوسلو الكارثي وإنقسام عام 2007 الذي أفضى إلى سيطرة حركة حماس على قطاع غزّة بالقوة والسلاح فيما سيطرت حركة فتح على بعض التجمعات الشعبية والسكانية في الضفة المحتلة.
وهذا هو الواقع الفلسطيني الصعب الذي يجب تجاوزه اليوم. .
يقول المفكّر الشهيد مهدي عامل: إن أخطر داء يصيب الحركة الثوريّة هو داء العفويّة والتلقائيّة في ممارستها، إنّه داء المغامر في الثورة في زمن التخطيط الإمبريالي على صعيد العالم.
ولو أردنا إسقاط هذه المقولة على الحالة الفلسطينيّة بشكل خاص، وبقراءة سريعة للواقع الفلسطيني، نجد أنّه أدّى إلى واقع مشرذم ومتناقض ومتباين في القراءات لمختلف المكوّنات الشعبيّة والفصائلية حتّى أنّ هناك قراءات فلسطينية متناقضة في فهم طبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني من أساسه، كفهم الصراع مع المشروع الصهيوني من زاوية واحدة، طبقية كانت أو دينيه أو قومية . إلخ.
وبالعودة إلى الوراء، واستحضار التجارب التحرريّة في العالم، ومقارنتها مع التجربة الفلسطينيّة بشكل خاص، نجد انّ الحزب البلشفي في روسيا على سبيل المثال كان لديه عثرات وأخطاء كثيرة لكنه كان يملك البرنامج المتكامل للثورة بناء على فهمه لواقع روسيا. لم يكن لديه خطّة واضحة وحسب، بل امتلك أيضاً من يستطيعون قراءة عناصر الواقع السياسي والثقافي والاقتصادي العام في روسيا، وبشكل واقعي وعملي وفهم معطياته ومجرياته وايصالها للجماهير في محاولة لتثوير كل الطبقات الشعبية والوصول لحالة ثورية يمكن العمل على تطويرها لتصبح ثورة متكاملة تحقق واقع مغاير ومتقدّم، قادرة على الاستفادة من الدروس والاخطاء الجسيمة التي كادت أن تودي بالثورة إلى الهلاك والهزيمة..
ليس القصد من هذا الكلام هو المقارنة بين واقعنا الفلسطيني وتجارب شعوب أخرى. لقد استطاع الشعب الفلسطيني أن يطلق ثورة شعبية في العام 1987 هي أرقى أشكال العمل الشعبي الثوري المنظم وتجسدت في الانتفاضة الشعبية لكننا نسأل اليوم: لماذا لم تحقق الانتفاضة أهدافها؟
ما نحتاجه كفلسطينيين لإعادة القضيّة الفلسطينيّة لمسارها الصحيح، هو فهم حقيقة أنّ كل تطوّر للواقع يخلق مهام وواجبات جديدة بحسب ما يقول المفكر الايطالي انطونيو غرامشي، وأن تبتعد الحركة الوطنيّة عن “رد الفعل” والعفوية والفردانية في التعامل مع الأحداث، وتكون فاعلاً مقررا مع معطيات حركة الواقع، تصنع التغيير بذاتها، فلا يمكن فهم الواقع دون فهم عناصره ومركباته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنفسية والثقافية، ولا يمكن تغيير النتائج السلبيّة دون قطع الطريق على أمراض الارتجالية والعفويّة والزعامة الفردية التي تفتك بالحركة الوطنيّة، ولعل ما يمكن البدء به هو فهم واقع شعبنا الفلسطيني أولاً بكل خصوصياته الوطنية وحقائقه ومعطياته الجديدة وتناقضاته ثم خلق أدوات واسلحة عصرية مناسبة ضمن إطار وطني عام يتوافق عليه الكل الفلسطيني وينبع من مصلحة الشعب كله وليس في خدمة ومصلحة طبقة متنفذة.
إن الخطوة العمليّة الأولى التي يجب البدء بها هي إعادة تعريف معنى واهداف الحركة التحررية الفلسطينية وماهية الصراع في فلسطين والمنطقة من جديد في ظل هذا التيه العام الذي يطال كافة مفاصل الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، وضرورة تحديد أدوات الصراع التي يمكن استخدامها ضمن متغيّرات العالم الجديدة، وآليّة استخدامها للوصول للأهداف سواء كانت مباشرة او استراتيجية وضمن إطار التوافق الكلّي على الأدوات والآليّات والبرامج العامة تحت مظلّة جبهة وطنية فلسطينية موحدة تستمد شرعيتها من الجماهير الفلسطينيّة في كافّة أماكن تواجدها.
هذا الأمر أصبح ضرورة ملحّة للفلسطينيين ويعتبر السلاح الأقوى والأوّل في مواجهة العدو من جهة ووأد الإنقسامات وتجاوز حالة التفكك التي حدثت من جهة اخرى. هذا يقطع الطريق على أي إنقسام جديد يلوح بالأفق، ويعتبر حجر الأساس لإعادة القضيّة الفلسطينيّة لمسارها الصحيح باعتبارها قضية تحرر وطني في مواجهة استعمار استيطاني احلالي، كما تضمن لنا فهم حركة تطور الواقع الذي يعيشه الفلسطيني والمتغيّرات الجذريّة التي تحدث من حوله
كما يجب الأخذ بعين الإعتبار عامل الزمن في الصراع فلا نقع فريسة المراجعة النقديّة دون النظر إلى المستقبل، ذلك لأن حركة الواقع تتغيّر بين الفينة والأخرى، وهذا الأمر الذي يجعل من الضرورة أيضاً فتح الباب أمام قيادة جماهيريّة قادرة على التأثير المباشر وغير منفصلة عن قاعدتها الجماهيريّة، وتواكب هذه الحركة وتقرأها وتكون قادرة على توجيهها لصالح الجماهير الفلسطينية. وخاصة استيعاب الدور الهام لطلائع الجيل الفلسطيني الجديد.
إن الحاجة إلى مسار ثوري بديل في مواجهة العدو الصهيوني ومواجهة المسار الانهزامي الذي تم سلكه منذ مؤتمر مدريد-أوسلو، ليس رغبة شخصية وانما ضرورة وطنية تمليها علينا شروط الصراع نفسه، على أن يكون هذا المسار الجديد صناعة وطنية وشعبية بديلة عن نهج “القيادة” الفلسطينية المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية.وعلى أن يكون هذا الطريق واع لمطالب ومعاناة الجماهير الفلسطينية، فلا يكرر الخطايا والأخطاء التي وصل اليها مسار التسوية والهزيمة حتى لا يصل إلى النتيجة ذاتها.
فعلى سبيل المثال كان قرار مشاركة القيادة الفلسطينية في مؤتمر مدريد للسلام” في العام 1991 قرارا فردياً ولم تكن قيادة م ت ف مفوضة من الشعب الفلسطيني ولا حتى من المؤسسات الفلسطينية، الأمر ذاته ينسحب على مفاوضات أوسلو واتفاق (اعلان المباديء) عام 1993 الذي أدى فيما بعد إلى شق الشعب الفلسطيني وساهم في تقسيم الفلسطينيين، مهمشا الكتلة الأكبر منهم في الشتات والأراضي المحتلة عام 1948. هذا الأمر ادّى إلى تقسيم الشعب الفلسطيني مناطقياً وسياسيا وشكل ضربة كبيرة للانتفاضة الشعبية الكبرى وبدد انجازاتها ولا تزال تداعيات هذه القرارات والسياسات تؤثر على حياة وواقع شعبنا حتى اليوم.
إنّ القراءة الصحيحة للمعطيات وعناصر الواقع والتخطيط السليم يحتاج إلى حوار ديمقراطي حقيقي وشجاعة كبيرة ودقيقة ورصانة في تحديد المدخلات ورصد عمليّة التخطيط، ومسؤوليّة تجاه كل شيء يؤثّر في مسار القضيّة بشكل عام وهذه اهم نقطة يجب أخذها بعين الحسبان لمن يريد ان يتخذ مسار ثوري جديد غير مسار مدريد-اوسلو.
بعد هذا الاستعراض البسيط، يجب علينا أن نثق بأن هناك ثمة طريق بديل يمكن أن يؤدي إلى عقد ثوري جديد يجمع الكل الفلسطيني ويفهم متطلباته. مسار يستثمر قواه لتغيير الواقع المهترىء الذي يمر به الشعب الفلسطيني والذي لا يمكن تجاوزه إلا بالنضال والعمل واعمال الفكر العلمي الثوري القائم على التخطيط والتنظيم واستشراف المستقبل وقراءة مواطن القوة والضعف في آن واحد.