في خضم المجازر الصهيونية المستمرة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة والضفة الغربية المحتلّة، ومع اشتداد الحصار والتجويع والقتل اليومي، تتكشّف أبعاد التواطؤ الدولي والإقليمي على نحو أكثر وقاحة وعلانية. وفي قلب هذا التواطؤ، تتقدّم كل من المملكة العربية السعودية والجمهورية الفرنسية بدور مشبوه، يسعى إلى إعادة فرض ما يُسمّى بـ«حل الدولتين» كمخرج سياسي، في الوقت الذي تُباد فيه الناس، وتُحرَق الأرض، وتُهدم البيوت على رؤوس ساكنيها
إنّ ما تروّج له باريس والرياض ليس سوى إبادة سياسية في العلن، وإعادة تدوير لمشروع فاشل وخطير، يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية من بوابة ما يُسمّى «الشرعية الدولية» المزعومة، مع أنّ ما يُقدَّم يحدث خارج إطار جميع قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالقضية الفلسطينية، رغم علّاتها. إنه استكمال لما بدأته «كامب ديفيد» و«أوسلو» و«وادي عربة» و«اتفاقيات أبراهام» من هتك للحقوق الفلسطينية وتفتيت لأهداف النضال الوطني الفلسطيني. فكيف يمكن الحديث عن «دولتين» في ظل احتلال شامل لكل فلسطين من النهر إلى البحر، واستيطان متسارع في الضفة، ومجازر جماعية تُرتكب بحقّ الأطفال والنساء والرجال في غزة؟! كيف يُبشَّر شعب يُقاوم منذ أكثر من سبعة عقود بدولة على الورق، بلا سيادة، بلا جيش، وبلا عودة للاجئين؟! ولماذا يُطلب من شعب يقاتل بالنيابة عن كل شعوب الأمّة أن يتنازل عن كل حقوقه؟
دائماً ما كانت فرنسا شريكاً رئيسياً في المشروع الاستعماري الغربي في منطقتنا، وهي اليوم تواصل هذا الدور القذر عبر دعمها الكامل للكيان الصهيوني، ورفضها وقف تصدير السلاح، وقمعها الوحشي لأي تعبير شعبي داعم لفلسطين داخل أراضيها. وتُقدِّم باريس نفسها، زوراً وبهتاناً، كـ«وسيط نزيه»، بينما هي تقف في خندق واحد مع واشنطن وتل أبيب، وتستضيف المؤتمرات التي تسعى إلى تكريس نظام الاحتلال. بل إنها استطاعت تمييع مواقف عدد من الدول الأوروبية، من بينها إيرلندا، والنرويج، وبلجيكا، وإسبانيا، وغيرها.
أمّا النظام السعودي الظلامي، فبعد سنوات من التمهيد الإعلامي والديني والسياسي، لم يعُد يخجل من إعلان شراكته الإستراتيجية مع الكيان الصهيوني، وتقديمه مشروع التطبيع الكامل كخيار «عقلاني» يجب أن تسير عليه بقية الدول العربية. لم تعد فلسطين، بالنسبة إلى حكّام الرياض، سوى ورقة تفاوض لتحسين شروط الحماية الأميركية، ولا يُخجلهم التآمر العلني على المقاومة والضغط لتجريدها من السلاح والشرعية، حتى لو كان الثمن إبادة مليوني إنسان في غزة. لا غرابة في الأمر. فهذا نظام دموي قاد حرباً إجرامية ضد الشعب اليمني.
جوهر ما يُسمّى بـ«حل الدولتين» ليس سوى تشريع للكيان الصهيوني، وتكريس لواقع الهزيمة، وتثبيت لكيان استعماري عنصري على 90% من أرض فلسطين، وليس 78% كما يُروَّج، مقابل كيان فلسطيني وظيفي هشّ ومقطّع الأوصال، على ما تبقى من جزرٍ محاصرة في الضفة وغزة، لن يتجاوز وجوده على أكثر من 10% من الأرض، من دون أي ضمانات لحق العودة، أو تفكيك المستوطنات، أو تحرير الأسرى. إنه مشروع لتصفية القضية، لا لتسويتها العادلة. مشروع لتجريد الشعب الفلسطيني من جوهر قضيته: التحرير والعودة.
إعلان نيويورك: خضوع كامل ودولة على الورق
في هذا السياق، تبرز خطورة ما ورد في ما سمّي «إعلان نيويورك حول التسوية السلمية للقضية الفلسطينية»، الذي صدر أخيراً، إذ جاء فيه: «رحّبنا بتعهدات محمود عباس باسم فلسطين، الواردة في رسالته المؤرخة في 9 يونيو 2025، ومن ضمنها السعي إلى التسوية السلمية لقضية فلسطين، والاستمرار في رفض العنف والإرهاب»، ويواصل البيان: «كما رحّبنا بتأكيده أن الدولة الفلسطينية ينبغي أن تكون الجهة الوحيدة المسؤولة عن توفير الأمن على أراضيها، لكنها لا تعتزم أن تكون دولة مسلّحة»!
إنّ هذه الصيغة لا تمثّل إعلاناً رسمياً عن نهاية المشروع الوطني الفلسطيني واستسلاماً تاماً لشروط الاحتلال والصهيونية فقط، بل إنها تُجسّد نهاية ما يُسمّى «الدولة الفلسطينية»، حتى وفقاً لمفهوم «السلطة» ذاتها التي تسعى إلى ترويجه في أوساط شعبنا. فـ«دولة» بلا أرض، بلا سلاح، بلا مقاومة، بلا قرار، بلا سيادة، تقبل بالوصاية الغربية والسعودية، ما هي إلا كيان أمني مسخ، تابع للمنظومة الصهيونية، لا يمت بصلة إلى طموحات شعبنا في التحرير والسيادة. إنه أكثر مسخاً حتى من مشروع الحكم الذاتي المحدود السيّئ الاسم والسمعة.
والمفارقة المريرة في هذا المشهد المقزّز أنّ العدو الصهيوني لا يرضى حتى بهذا البرنامج المُفرغ من أي مضمون وطني، بل يستكثر علينا حتى «رؤية محمود عباس» واتفاقيات أوسلو التصفوية، رغم أنها صيغت أصلاً لحمايته، وتكريس احتلاله، وتقييد مقاومة شعبنا. لذلك، ربما يجب أن نطمئن إلى مواقف مجرمي الحرب الصهاينة ومن يدعمهم في إفشال هذا المشروع! في ظل وجود قيادات فلسطينية وأنظمة عربية عاجزة ومتواطئة، يتكئ عليها الاستعمار الصهيوني لتصفية قضية فلسطين.
إنّ هذه المرحلة الخطيرة تتطلب رفضاً شعبياً فلسطينياً وعربياً ودولياً قاطعاً لهذا المشروع التصفوي التآمري، واستعادة زمام المبادرة من يد الأنظمة العميلة، وتكثيف الدعم الشعبي والسياسي والمالي والعسكري للمقاومة الفلسطينية بكل الوسائل. لقد أثبتت تجربة العقود الماضية أن العدو الصهيوني لا يفهم سوى لغة القوة، وأنّ الحقوق لا تُستردّ إلا عبر الكفاح المسلّح والمقاومة الشاملة، لا عبر المفاوضات والوساطات الكاذبة.
إنّ فلسطين المحتلة من النهر إلى البحر هي حق مقدّس للشعب الفلسطيني لا يُساوَم عليه، وعودة اللاجئين حق غير قابل للتأجيل أو التسويف، وكل من يروّج لتجزئة هذه الحقوق، أو تقزيمها، هو جزء من مشروع التصفية، سواء ارتدى عباءة الدين أو رفع شعار العلمانية والديموقراطية. فكل عطور باريس والرياض لن تطمس عفن مشروعهما التصفوي ورائحته الكريهة.
* كاتب فلسطيني