زيارة إلى سيرة وفكر الشهيد فتحي الشقاقي

الكاتب: خالد بركات

(يستند المقال إلى ندوة بعنوان: البديل الثوري في فكر الشهيد فتحي الشقاقي)

الحديث عن سيرة وتجربة الدكتور الشهيد فتحي الشقاقي (أبو إبراهيم)، مؤسس “حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين”، لا يمكن تغطيتها في ندوة واحدة، لأن حياة هذا الإنسان الاستثنائي، المجاهد والأديب الكبير، والقائد السياسي، كانت زاخرة بالأحداث والأحزان والأفكار، وكذلك انتقاله من مرحلة إلى مرحلة، ومن مدرسة فكرية إلى أخرى، في سعيه الدؤوب لتحرير وطنه وشعبه، وفي تطوّره الشخصي. لهذه الأسباب وغيرها يصعب الحديث عنه بشكل تفصيلي اليوم؛ نحن نحتاج إلى أكثر من ندوة.

يكفي أن نعرف مثلًا أن الفتى فتحي الشقاقي حاول تأسيس “تنظيم ثوري” في غزة حين كان عمره 15 سنة! هذا يدلّنا على انغماسه المبكر في الهمّ العام. كان “ناصريًّا” في حينه، وبدأ رحلة النضال وهو في مقتبل العمر، مسكونًا بالأسئلة الكبيرة ويحمل هموم شعبه، ويفكّر في خلاص أمته من الاحتلال والاستعمار. وظلّ هذا الهدف يلازمه طوال مسيرته كفاحه حتى لحظة استشهاده في جزيرة مالطا يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول 1995.

وإذا عرفنا أنه طبيب وناقد وشاعر ومفكر سياسي، فضلًا عن تجربته في الأسر وسيرته النضالية والإنسانية، نكون بالتأكيد في حاجة إلى أكثر من لقاء واحد لنتعرّف بعمق أكثر على هذه الشخصية الفلسطينية العربية الإسلامية العميقة والغزيرة، حتى نطلّ عليها في أبعادها المتعددة والمختلفة. بل والمتناقضة في بعض الأحيان.

المسألة الثانية، وهي أن حياة الدكتور الشهيد فتحي الشقاقي، القامة الوطنية الكبيرة، كانت عبارة عن سلسلة متصلة من المحطات الجهادية والمعارك الفكرية التي لم تخلُ من خسائر وخصومات، ومن مواجهات سياسية، خاصة في بحثه المستمر عن البديل الثوري، أي الدرب الذي يؤدي إلى تحرير فلسطين. فنحن أمام شخصية قلقة ومتوجسة، بالمعنى الإيجابي، وحازمة وقاطعة من جهة ثانية، تطورت رؤيتها ونظرتها للحياة والفكر والجهاد معًا، دون أن تفقد النقطة المركزية: تحرير فلسطين.

إن فلسطين، بالنسبة للشهيد فتحي الشقاقي، كانت مركز الكون، مركز الصراع، مركز الولادة والموت. وسنرى أن هذه الفكرة كانت مهيمنة على كل تفاصيل حركته، بل ومسيطرة على وجوده، والفيصل، المحدّد الأساس في لقائه أو خلافه مع الآخرين.

تعلمون أن هناك شخصيات وتيارات إسلامية تقول مثلًا: “الوطن فكرة مش مهمّة، يعني ماليزيا وإندونيسيا زي فلسطين”. لا يوجد شيء اسمه وطن. هذه التيارات، مثل بعض التيارات الشيوعية واليسارية، كانت تعتقد أن فكرة “الوطن ـ الأرض” مسألة عابرة، وأن الأهم بالنسبة لها هو إقامة “النظام” أو الدين والإسلام، أو دولة الخلافة، أو العبادة… إلخ. هذه الفكرة كانت مرفوضة بالمطلق بالنسبة للشقاقي؛ إذ ظلّ يرى أن “الإسلامي” اليقِظ، والمجاهد الثوري، يجب أن يكون صاحب قضية وطنية أولًا، خاصة في الحالة الفلسطينية، وأن يذود عن أرضه، وأهله، وشرفه، وشعبه. يعني الدفاع عن وطنه، وهذه أولوية أساسية.

يمكن للمدخل الوطني أو السياسي أن يتغيّر أو يتعمّق، لكن دون أن يفقد البوصلة والهدف. وقد اتخذ من حديث النبي ﷺ عن مكة وحبّه لقريته مثالًا، حين قال:

“والله إنكِ لخير أرض الله وأحب أرضٍ إليَّ، ولولا أن أهلكِ أخرجوني منكِ ما خرجتُ.”

إذن، المسألة الوطنية مسألة أساسية ومقرّرة في فهم شخصية الشقاقي وسيرته الجهادية. إنها مسألة شخصية وجماعية في آن، لذلك كتب الشقاقي:

يا جُرحَ تفتَّح يا جرح

يا أهلي هاتوا الملح

حتى يبقى حيًّا هذا الجرح

حتى يبزغ من ظُلم الليل الصبح

لن أغفر لك

لن أغفر لك

تلعنني أمي إن كنتُ غفرت

تلفظني القدس إن كنتُ نسيت

ويعدّد أحرف الوطن، فيقول: “تلفظني الفاء، تلفظني اللام، تلفظني السين، تلفظني الطاء، تلفظني الياء، تلفظني النون، تلفظني كل حروفكِ يا فلسطين، تلفظني كل حروفكِ يا وطني المغبون… إن كنتُ غفرتُ أو كنتُ نسيت”.

الولادة:

ولد الشقاقي في أسرة فقيرة لاجئة في قطاع غزة في 4 يناير 1951، فجاء إلى الحياة بعد ثلاث سنوات من وقوع النكبة. وحين نقول “أسرة فقيرة”، قد يظن البعض أننا نتحدث عن الفقر العام، “الفقر العادي”، لكن الشقاقي ولد في أسرة معدمة من القاع الطبقي، إذا جاز التعبير، وعائلة مسحوقة لا تملك أي شيء. هذا يعني في الواقع أنه دخل إلى حياة الشقاء والعمل والكدح طفلاً وشابًا، معايشًا حياة العمال والصيادين في غزة وعمال البناء والمزارعين في الضفة.

هذه مسألة مهمة، فيها حساسية خاصة. عمقت انتماءه الحقيقي للطبقات الفلسطينية المسحوقة الكادحة، وحفزت لديه وعيًا طبقيًا من طراز خاص. بل حددت انحيازه للمستضعفين وللفقراء ومصالحهم والدفاع عن حقوقهم، وهذا ما سنراه أيضًا مسكوبًا في شعره وأدبه في فترة لاحقة، في قصائده عن العمال والفقراء. إنها مسألة أساسية في فهم تكوين وعيه الثوري، وخياراته الاجتماعية، والسياسية، والثقافية.

وسنبحث لاحقًا في الندوة كيف طبع الشقاقي أفكاره وبصماته حول ما يمكن أن نسميه بـ “المسألة الوطنية” والانحياز إلى اللاجئين والطبقات الشعبية الفلسطينية المفقرة، وترك أثره على مجمل التوجهات العامة للحركة التي سيؤسسها فيما بعد: حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين. وقد دخل الشقاقي معارك سياسية وفكرية مع تيارات كثيرة حول هذه المسألة بالتحديد.

يمكن القول إن الفترة التي عاشها في فلسطين قبل انتقاله للدراسة في مصر، وقبل أسره ثم إبعاده من فلسطين، سمحت له بالتنقل والعمل في كل فلسطين المحتلة، وخاض تجارب الكدح والعمل والتنقل في معظم مناطق فلسطين المحتلة، الدراسة في الضفة، الاعتقال والتحقيق في السجون، والإقامة الجبرية، وتعرف على وطنه وشعبه عن قرب، وليس في الكتب. كما تعرف على جغرافيا الوطن واختلاف لهجاته وقراه ومدنه ومخيماته، رأى تعددية الشعب الفلسطيني الدينية والفكرية والسياسية، وفي كل ذلك سيرى جماليات الشعب الفلسطيني كمصدر قوة، ويعزز معرفته العميقة بخصوصيات الفلسطينيين المحلية أيضًا.

المرحلة الأولى

كان الشقاقي، مثل غالبية الشباب والشعب الفلسطيني، “ناصري الهوى”، كما قلنا، ويرى في جمال عبد الناصر القائد العربي المخلص، الذي يسعى إلى وحدة الأمة وتحرير فلسطين. ثم وقعت هزيمة عام 1967، فكانت صدمة كبيرة، من جهة، لكنها شكلت له حافزًا للمراجعة والبحث عن خيارات جديدة وعن البديل الثوري من جهة أخرى.

انتقل جزء من الشباب الفلسطيني من “حزب البعث” و”الناصرية” و”حركة القوميين العرب” و”الإخوان المسلمين” إلى التيارات الوطنية الجديدة الوليدة والصاعدة في حينه، مثل حركة فتح أو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وغيرها من “منظمات العمل الفدائي”، بعضهم ذهب إلى الخيار الإسلامي، من بينهم الشقاقي، فاختار أن يقرأ فكر التيار الإسلامي ثم ينتمي له، وكان الخيار المتاح في تلك الفترة جماعة الإخوان المسلمين في مصر، خاصة فترة دراسته للطب.

خمرة ثانية، شعر الشقاقي أن السؤال الوجودي بالنسبة له، تحرير فلسطين، عاد يطرق الباب من جديد. فكان يحاور دائمًا إخوانه في الجماعة والتيارات السلفية الجهادية وغيرهم عن دور الإسلاميين في تحرير فلسطين، دورهم في التصدي للأنظمة، في الجهاد المسلح، في تعزيز صمود الشعب الفلسطيني. وبالتدريج وجد نفسه على خلاف مع الإخوان.

وحين نتحدث عن البديل الثوري في فكر الشقاقي، فليس بالضرورة أن يكون بديلاً ثوريًا بقدر ما كان يتصوره هو بديلاً ثوريًا، ثم سرعان ما يكتشف أن الأمر أبعد، ولا بد من البحث من جديد. كان يذهب إلى البديل الثوري الذي يقوده إلى فلسطين، فإذا لم يجد فلسطين في المركز، وقف وتأمل وراجع مواقفه وانتقل إلى مرحلة جديدة. ولم يكن يتوانى لحظة واحدة في التراجع وممارسة النقد الذاتي.

تأثر الشقاقي بكتابات الإسلاميين، وخاصة من سوريا، الذين قالوا إن هزيمة عام 1948، كانت هزيمة للقوى الليبرالية، والفكر الوافد من الغرب، وهزيمة 1967 كانت هزيمة التيار القومي، هذا فكر وارد من الغرب أيضاً، وبالتالي لا يوجد إلا الحل الإسلامي والفكر الذي يعيش في وعاء حضاري أقرب إلى الشعب ويعبر عن هويته وثقافته وخصوصيته. فلم يجد تناقضاً بين الوطني والإسلامي، بقدر ما وجده انسجاماً كاملاً فيه.

الثورة الإسلامية عام 1979

عام انتصار الثورة الشعبية الإيرانية كان مهمًا في تغيير فكر الشقاقي. وهو العام الذي وقّعَت فيه مصر اتفاقية كامب ديفيد، وكان من الطبيعي أن يتأثر بالثورة في إيران، ويكتب عنها، وقد باركت كل القوى والتيارات الثورية من مختلف المشارب الفكرية انتصار الثورة والإطاحة بالشاه، وكان أول كتاب للشقاقي حول الثورة يحمل اسم “الحل الخميني والبديل”.

وتجدر الإشارة هنا إلى الحالة التي كانت موجودة في المنطقة بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982، حيث بدأت حملات وضغوط هائلة على الشباب الفلسطيني للذهاب والقتال في أفغانستان، تلك الحملات المسعورة والموجهة بقيادة أمريكا والسعودية والمخابرات الباكستانية. في هذه اللحظات الصعبة، سنرى كيف أن حضور فلسطين المركزي في فكر الشقاقي دفعه لخوض معركة قاسية في مواجهة هذا الحلف. ويمكن القول إنه من أبرز الأسماء التي تصدت لهذا التوجه وخطابه للشباب الفلسطيني أن الجهاد يجب أن يكون في فلسطين وليس في أي مكان آخر.

كان الشقاقي حاضرًا في اللحظات الصعبة وليس في الفترات السهلة. وحين نقرأ تاريخ حركة الجهاد الإسلامي، نجد أن جذورها بدأت في وضع هذه النواة التي تصوب البوصلة نحو القتال في الأرض الصحيحة (فلسطين) وفي الميدان الصحيفي السنوات الخمس الأخيرة من حياته، نرى كيف أطل الشقاقي أكثر على فكر المدارس الأخرى في الماركسية والقومية والإسلامية، أحيانًا يصحح للماركسيين مفاهيم ماركس ومقاصده، أظنه قرأ ماركس أفضل منهم، يتعب على نفسه فكريًا وسياسيًا وثقافيًا، حتى أصبح موسوعيًا بهذا المعنى.

الانتفاضة الشعبية الأولى

كان لحركة الجهاد الإسلامي دور مركزي وحاسم في تثوير الشارع وصب الزيت على نار الانتفاضة الأولى في 1987، وثمة علامات بارزة على دور الحركة التي انطلقت بقوة أكبر بعد عملية هروب ستة من أسراها من سجن غزة المركزي، وتنفيذ عدد من العمليات العسكرية النوعية، ودورها في الشارع.

وقد أقدم العدو على اعتقال الشقاقي، ثم ندم على إبعاده خارج وطنه، حيث استطاع قائد الحركة أن يتحرك خارج فلسطين ويلتقي عشرات القوى الوطنية والقومية، وخاصة قوى المقاومة (حزب الله) وفصائل فلسطينية، ويؤسس ويبني المداميك الرئيسية لحركة الجهاد الإسلامي في الخارج، ويدفعها نحو المزيد من الحضور في ميادين المقاومة داخل الأرض المحتلة.

مؤتمر مدريد – اتفاق أوسلو بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، تأسس تحالف “الفصائل العشر”، وكان موقف حركة الجهاد الإسلامي، الذي عبّر عنه الشهيد فتحي الشقاقي، متميزًا وحاسمًا. فقد كان حين يخاطب الجماهير مباشرة، أو يكتب، يقول بثقة وصراحة: “نحن نعيش أزمة البديل الوطني، الديمقراطي، الإسلامي”، ويؤكد أن هذه الفصائل العشر يجب أن تعترف بوجود أزمة حقيقية في داخلها. ويرى أنه حتى نكون بديلًا حقيقيًا، علينا أن نقطع بالكامل مع التيار المهزوم الذي ذهب إلى أوسلو وأسّس حكمًا ذاتيًا، مؤكداً أنه من الصعب جدًا عقد وحدة وطنية مع هذا التيار.

أشار الشقاقي إلى أن بعض الفصائل التي كانت تشاركهم الموقف وتقول إنها “ضد أوسلو لأن ياسر عرفات تنازل عن 78% من فلسطين” فأجابهم قائلاً إن العدو لن يمنحكم شيئًا، ولا حتى 1%، فهو يريد أن يأخذ منا فلسطين والعالم العربي والمزيد، ولن يعطيكم أي شيء. وقال: أبشركم، هذه السلطة لن تكون إلا أداة بيد الاحتلال، وستقمع شعبنا، لأنها سلطة أمنية لا يمكن أن تتحول إلى دولة.

كما وجّه الشقاقي نقدًا حادًا للمعارضة الفلسطينية، معتبرًا أنه لا يمكن أن يكون هناك بديل ثوري إذا كان خاضعًا لهيمنة تيار أو فصيل واحد. فالبديل الثوري، من وجهة نظره، يجب أن يتجاوز فكرة “المعارضة” وأن يكون وطنيًا، ثوريًا، ديمقراطيًا، وأن يعمل على قطيعة كاملة مع الطبقات التي حققت مصالحها وامتيازاتها عبر التنسيق مع العدو، بحيث يصبح هذا البديل في مواجهة هذه الطبقة لا في البحث عن “تسوية” ولا يكون في خدمتها.

واعتبر الشقاقي أن هناك تيارات فلسطينية إصلاحية تقدّم نفسها على أنها “بديل” لكنها في الواقع تبحث عن مصالحة مع التيار المهزوم، وبالتالي فهي ليست بديلًا ثوريًا حقيقيًا. وأضاف أن هناك ما أسماه “البديل الأسوأ”، وهو أخطر من تيار ياسر عرفات ومن ذهبوا إلى أوسلو، لأنه يكرّس الهزيمة بأشكال أكثر عمقًا.

وحذّر الشقاقي من أنه إذا لم نحدد موقفًا واضحًا، فإن السلطة ستعمل على استيعاب الفصائل في بنيتها، وأن بعض القوى قد تُهضم داخلها عبر الانتخابات، أو تحت شعارات زائفة أخرى، ما سيؤدي إلى تفكك الصف الثوري، وقد يحتاج الأمر جيلًا كاملًا لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح.

وأكد الشقاقي في العديد من المقالات والخطابات أن المسألة بالنسبة لنا هي تحرير فلسطين كاملة، وليست “تدوير زوايا” أو تحسين شروط التفاوض مع التيار الذي وقع اتفاق أوسلو. يقول بوضوح: “المطلوب ليس تقوية هذا التيار، بل إضعافه لصالح البديل الثوري.” كما أشار إلى أنه إذا وُجد تيار أساسي داخل الفصائل العشر، أو في المقاومة، فيجب أن يأخذ موقعه الطبيعي في القيادة، لكنه قال أيضاً: “لا طاعة لتنظيم قائد يخرج عن البرنامج المتفق عليه”، وكانت هذه، في اعتقادي، إشارة واضحة إلى حركة حماس.

كان الشقاقي يرى أن المرحلة بعد مؤتمر مدريد قد غيّرت قواعد اللعبة، إذ قال: “أما وقد وقع مدريد، فقد أصبح البديل مسألة ضرورية، بل مسألة حياة أو موت.” وقد التقى في هذا التوجه مع الدكتور جورج حبش، حيث اتفقا على أن الطبقات المستفيدة من أوسلو لن تتنازل عن امتيازاتها دون خوض معركة حقيقية قد تكون عنيفة وخطيرة. وهنا برز تقارب واضح بين اليسار الجذري وحركة الجهاد الإسلامي، غير أن هذا التقدم كان يصطدم دومًا بتراجعات متكررة.

اليوم، بعد مرور ثلاثة عقود على استشهاد الشقاقي، نجد أن كل المحاذير التي تحدث عنها تحققت بالكامل، فكل ما تنبأ به تقريبًا أصبح واقعًا ملموسًا، مما يعيدنا مجددًا إلى طرح السؤال الجوهري: أين هو البديل الثوري؟

لقد كان الشقاقي يرى البعد الوطني والعربي والإسلامي والأممي بوضوح شديد، لكن لم يُتح له الوقت الكافي – بسبب اغتياله- لتطوير هذا الفكر وتعميقه أكثر.

وأخيرًا:

لم يكن الشهيد القائد فتحي الشقاقي يتنبأ بالمستقبل فحسب، بل كان يمتلك رؤية استشرافية عميقة قائمة على فهم واضح لطبيعة العدو والصراع. ففي المراحل الصعبة من حياة الشعوب، تبرز أحيانًا أصوات وحركات ثورية قد لا تكون “يسارية” بالمعنى التقليدي، ولكنها ثورية في رؤيتها وسلوكها. وإن حصر مفهوم الثورة في الإطار اليساري القومي الضيق مسألة تحتاج إلى إعادة تفكير وبحث، حتى في سياق تاريخنا الفلسطيني.

فمثلًا، كان الشيخ عزّ الدين القسام ورفاقه يخرجون لقتال الاستعمار والصهاينة، بينما كان بعض الشيوعيين واليساريين يجلسون على المقاهي، ويتجادلون في فلسفات بعيدة عن واقع شعبهم، أشبه بما كان يفعله فلاسفة روما حين كانت تُحترق من حولهم، بينما هم يناقشون “جنس الملائكة”. وما أشبه الأمس باليوم.

إن المقاومة المسلحة ليست الشرط الوحيد للانتصار، لكنها الشرط الأساس، وإن “البديل الثوري” يجب أن يكون شاملاً، يتضمن العنف الثوري كأداة من أدواته، لكن دون الاكتفاء بها وحدها. فالثورات لم تنتصر بالعنف وحده، كما لم ينتصر أولئك الذين تخلّوا عنه بالكامل. وقد درس الشقاقي هذه التجارب بعمق، ورأى أنه لا بد من رؤية ثقافية وسياسية واجتماعية شاملة، ووجد في الرؤية الإسلامية الثورية إطارًا جامعًا، فجعل منها الأساس لبناء ذراع عسكري لحركة الجهاد، يكون قادرًا على ترجمة أفكارها إلى برنامج عملي. كما أدرك أنه لا بد من بناء جبهة وطنية ثورية عريضة تمتلك خياراتها المستقلة، فلا تراهن على الآخرين بقدر ما تراهن على قوتها الذاتية، فتكون قادرة على قيادة القاطرة الفلسطينية نحو التحرير والعودة.

Share this
Send this to a friend