في مواجهة المرّحلة ومسار مدريد –أوسلو
نعم، نحو مسار فلسطيني ثوري وبديل
محمد عليان
إن المشروع الصهيوني الذي بدأ كفكرة عنصرية استيطانية منذ قرابة القرن ويزيد، تجسّد عمليًا على أرض الواقع بفعل الأكاذيب الواهيّة التي رَوجت لها الحركة الصهيونيّة عبر الرّأي العام العالميّ مثل: “معاداة السامية”، واستغلال ما عرف بـ الهلوكوست (المذبحة)، وتوظيف أساطير العنصر النقي، والرواية الدينية..الخ وجاء هذا وفق أجندة سياسية وإعلامية مبرمجة وعلاقة وطيدة متشابكة مع مصالح القوى الاستعمارية لتحصد الحركة الصهيونية التعاطف العالمي واليهودي معها، وبالتالي تبدأ في تنظيم هجرة اليهود إلى أرض فلسطين، ويتم تشريد شعب بأكمله عام 1948، وإحلال مستعمرين مكانه في أكبر عملية سطو وتطهير عرقي عرفها التاريخ، ساعدها في ذلك كبرى الدول والقوى الاستعمارية آنذاك فرنسا وبريطانيا حفاظاً على مصلحتهما وجعل (إسرائيل) قاعدة استعمارية متقدمة في قلب الوطن العربي والمنطقة.
ورغم حدة التناقضات لدى أصحاب هذا المشروع، لكن تبقى الإستراتيجية الصهيونية أساس العمل ويواصلون السير عليها قدماً إلى الأمام دون أي اعتبارات لأحد، لهذا السبب نجحوا إلى حد كبير فيما فشل العرب أيضا إلى حد كبير ، وفي عملية المواجهة التاريخية حتى الآن على الأقل؛ لأن العرب ليس لديهم إستراتيجية مضادة وقادرة على مواجهة هذا الخطر الكبير الذي يهدد وجودهم وحياتهم وثرواتهم، ولا يرفعوا من سقف التحدي أمام هذا الوجود الصهيوني، بل تجد برامجهم لا ترتقي إلى مستوى الإستراتيجية والمواجهة ولا يتم البناء على ما سبق من إنجازات وإنما يأتون بنوع من الإصلاحات الاجتماعية كَمُسكّن مؤقت لشراء “السلم الاجتماعي” و ” الاستقرار”
وهي ليست إصلاحات جذرية وحقيقية شاملة بما تعنيه الكلمة من معنى نحو التقدم والرقي، الذي لا يتأتى إلا بالخلاص الكلي من هذه المشروع اللعين الذي تم زرعه كسرطان قاتل في قلب هذا الوطن العربي من أجل هدف واحد وحيد وهو تعطيل أي نهضة فاعلة لوحدة هذه الأمة ، لماذا لا يتعلم العرب من هذا العدو الماكر؟ لكي لا يقعوا في خطأ التقدير والتقليل من قدراته واستراتجياته، وحتى لا يصوره بأنه العدو الذي لا يقهر مثلما يحلو للبعض تصويره، من أجل تبرير عجزهم واستسلامهم (المقصود هنا عجز القيادة العربية)، والوقوع في شراك الحلول التصفوية التي آل إليها مسار مدريد ـ أوسلو بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني عام 1979، لماذا يتم دائماً رفع شعار في كل مكان ” اعرف عدوك ” ولا يُجسد على أرض الواقع عمليا عبر منظومة التعليم العربية إذا كان هناك منظومة أصلاً ومن خلال مناهج تربوية وعلمية تستهدف الأجيال الناشئة، هذه التوجهات غير المسؤولة لم تكن على الإطلاق بمستوى طموح وتضحيات الجماهير العربية ضد هذا المشروع.
منذ أن وطئت قدم الرئيس المصري المستسلم أنور السادات أرض فلسطين المحتلة في زيارته المشؤومة للكيان الصهيوني الغاصب في يوم السبت من التاسع عشر تشرين الثاني عام 1977 ليلاً، وخطابه الشهير الذي ألقاه أمام “الكنيست الإسرائيلي” في اليوم التالي، بدأ مسلسل التراجع والانهزام يتضح أكثر عند تلك القيادة الهزيلة المتحكمة في شعوبها العربية، وبدأت تتجسد الخطوط العريضة لتلك الإستراتيجية الصهيونية والتي يمكن تسميتها ” إستراتيجية التشظي والخنوع ” إن جاز التعبير وفرضها على الخصم، ومن نتائجها الواضحة اليوم هي مرحلة الانحطاط والتراجع التي تعيشها القضية الفلسطينية، بفعل التمدد الأفقي والعمودي لبنية نظام كامب ديفيد، حيث بات من الصعب تفكيك هذا التمدد بسهولة، وهي أشبه بمرحلة مخاض عسير تتطلب مزيداً من الوعي، والنفس الطويل والجهد، والفعل الكفاحي على أرض الواقع، رغم حالات النهوض هنا وهناك التي سرعان ما يتم إسكاتها.
وبتوقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 بين مصر والكيان الصهيوني، بدأنا نشهد مسلسل جديد من الهزائم والتوقيعات، حيث تم عقد “مؤتمر مدريد للسلام ” وما اطلقوا عليه “المفاوضات المتعددة والثنائية” والتي أفضت إلى توقيع اتفاق أوسلو الخياني عام 1993 بين منظمة التحرير والكيان الصهيوني مقابل سلطة للحكم الذاتي المسخ لإدارة شؤون طبقة المال و” ثوار الأمس” الذين استراحوا وأراحوا الاحتلال من مسؤوليته أمام المجتمع الدولي في إدارة شؤون الناس وبالتالي قلّت تكلفته وهي النتيجة المؤلمة والقاسية والمريرة، بالفعل ذابت كل فصائل العمل الثوري الفلسطيني في تلك اللعبة وأحالت معظمهم على التقاعد حسب خطة الجنرال الأمريكي كييث دايتون وأصبح يتحكم بقرار معظم الفصائل ثلة من الوصوليين والانتهازيين.
وجاء توقيع اتفاق وادي عربة عام 1994 بين الأردن والكيان الصهيوني في العام الموالي، ناهيكم عن الاتفاقيات السرية الغير معلن عنها مع أطراف عربية أخرى على أساس تجاري وأمني وما إلى ذلك من مصالح في العلاقات، وليس آخرها اتفاق البحرين والإمارات والسودان عام 2020، رغم هذه الصورة المأساوية والسوداوية نوعا ما، إلا أن هناك مقاومة مضادة لهذا كله ولم تتوقف أبداً وستبقى دائماً تشع نوراً وسط هذا الظلام في مواجهة المشروع الصهيوني وأدواته الرجعية أمثال منظومة كامب ديفيد، ولا بد من مراجعة عميقة وجذرية مع الذات للإجابة على سؤال حري بالتأمل: لماذا فشلت كل جهود القوى التقدمية والقومية في هذا العالم العربي لوضع حد لهذا المشروع العنصري؟.
وفي اعتقادنا أن هذه القوى لم تدرك جيداً طبيعة هذا المشروع الاستعماري ويغيب عن أذهانها هذه الرؤية في التحليل وتقدير الأمور، المسألة الثانية لم يتكون البديل الثوري الحقيقي لمواجهة هذا المشروع على مدار الأربعة عقود من توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ولأن التعبئة والتنظيم وحشد الجهود الفاعلة كانت بغير المستوى المطلوب أمام استسلام الرجعية العربية أولاً وتقدم المشروع الصهيوني ثانياً، مما يجعلنا نتأمل بجدية في واقع التجربة الحزبية والتي لا بديل عنها إذا كانت سليمة وصحية، ولكن ما يلاحظ اليوم بأنه ينتابها حالة من الترهل والتراجع بسبب عجز وصول الأجيال القادمة إلى معمعان العمل الثوري والسياسي، وأصبح الحزب الثوري طارد للكفاءات، على المستوى الفلسطيني والعربي، ولا يوجد حزب طليعي في هذا الوطن العربي اليوم قادر على المواجهة الحقيقية، وقادر على تنظيم وحشد كل الطاقات الشابة ليكون بمثابة المستوى المنوط به.
إذا كان هذا غير موجود فما بالكم عن الإستراتيجية العربية مقابل الإستراتيجية الصهيونية فهذه أيضاً منعدمة تماماً، لماذا أصبح تحرير فلسطين مسؤولية الفلسطينيين وحدهم بعد قرارات قمة الرباط عام 1974؟ أليس هذا من أجل تمرير مشروع سياسي هو مشروع كامب ديفيد الذي نعيش نتائجه الكارثية اليوم كمشروع انهزامي واستسلامي، لماذا تم شطب الإستراتيجية الفلسطينية التي هي أساس اقتلاع هذا المشروع؟ لماذا أصبحت منظمة التحرير على الهامش؟ لماذا شُطب الميثاق الوطني الفلسطيني الذي هو أساس عمل الإستراتيجية الفلسطينية القائمة بينها وبين العدو؟ لماذا يُرفع شعار في كل الفعاليات الوطنية تحت عنوان: ” تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية ” ؟ أليس هذا بسبب تلك القيادة السالفة الذكر، والتي بقيت في ممارستها للحكم حتى الموت؟!
من أجل ذلك كله لا بد أن تتشكل رؤية ثورية جديدة تكون بداية التغيير الجذري لهذا المسار الانهزامي، بل يجب أن تخرج من بين هذا الركام لتعيد للقضية الفلسطينية وهجها وإشعاعها المطلوب، لم لا تتحقق نبوءة غسان كنفاني التي عبر عنها في ندوة ثقافية على إثر هزيمة عام 1967 عندما قال: ” إن ما يحدث الآن ليس المخاض ثمة شيء عظيم يولد بين ركام الهزيمة، مثلما يولد بركان من تحت الشظايا الباردة لجبل مهجور، فالجرح إذا انفتح في جسد ميت لا يؤدي إلى أي اهتزاز، ولكنه إذا ما انشق في جسد حي زاد قابليته للمقاومة، وحرك القوة الكامنة في أعماقه وضاعف من طاقته على الرد، وهذا الجسد العربي الذي تلقى الجرح يتحرك يبرأ ويتحفز ويقاوم، ويضاعف طاقة حواسه، ويقف على قدميه الصلبتين، ليعبر جسر العذاب“، هذه الرؤية كانت قائمة ولم تنقطع بتاتا على مدار الأربعة عقود سالفة الذكر لكنها لم تستجمع قواها لتكون بمثابة قوة واحدة لتغيير هذا المسار الانهزامي، الذي انعكس على الحالة العربية والفلسطينية على وجه التحديد، وباتت الجماهير مقهورة ومحبطة من جراء ذلك، وزاد الفقر والبؤس والجهل في وسطها وسادت حالة من الاستسلام والجمود، وعدم التنظيم نتيجة لممارسة القيادة والانسياق وراء مسار مدريد ـ أوسلو مقابل الحفاظ على مناصبهم أكثر فترة ممكنة والوقوف سداً منيعاً في وجه الأجيال الصاعدة.
المسار الثوري البديل:
لقد جرى الإعلان مؤخراً عن مؤتمر المسار الفلسطيني البديل من قبل مجموعة من المثقفين الأغيار على قضيتهم وقضية العرب المركزية، والدعوة إلى لقاء يتزامن مع مرور 30 عاما على مؤتمر مدريد التصفوي. أوليست الثورة الحقيقية تبدأ كفكرة ثم يحملها الثوار على أكتافهم لإنجاحها وترسيخها على أرض الواقع وبالتالي تبدأ عملية التغيير الثوري؟
وكما أشرنا في بداية مقالنا سابقاً إن المشروع الصهيوني بدأ كفكرة وتجسّد على الأرض، أعتقد أن مجرد فكرة الإعلان عن مؤتمر المسار البديل لن ترعب سلطة أوسلو وبعض الرجعيات وحسب ، بل تربك وتزعزع كل أركان منظومة كامب ديفيد – وادي عربة – أوسلو – وداعمي المشروع الصهيوني أيضاً.
إن تطبيقها الفكرة على أرض الواقع يحتاج إلى سنوات من النضال والبناء الفعال والقوي ويحتاج إلى الوقت والابداع في تجميع طاقات الشعب الفلسطيني والعربي وحتى حشد معسكرنا الأممي، والعمل بجدية فائقة على جبهة التضامن العالمي، وهذا لا يقتصر على الجبهة الفلسطينية بل ينسحب على الحالة العربية التي تحتاج إلى دعم حركات التحرر في العالم من أجل استنهاضها من جديد، وفق برنامج متوازي ومتداخل.
نعم الشعب الفلسطيني بحاجة ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى لمسار فلسطيني ثوري بديل يستجمع فيه كل قواه الكامنة وطاقاته على النهوض من جديد ليفاجئ الجميع، ويخلط كل الأوراق ويسترجع منظمة التحرير الفلسطينية إلى سابق عهدها بميثاقها الوطني الفلسطيني الذي تم شطبه، والذي هو أساس إستراتيجيته العملية المطلوبة للتحرير والعودة.
ولكي ينجح هذا المسار ويكون بمثابة الصاعقة على الكيان الصهيوني وكل الرجعيات، يجب أن يكون هناك تنظيم وتعبئة لحشد كل الطاقات الشابة وفق رؤية وبرنامج عمل يستقطب الجيل الفلسطيني الذي ولد في الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، الذي هو مطالب اليوم بأن يكون الواجهة الحالية ويستعيد دوره الذي سلب منه، فمن حقه أن يعمل ويقول ويمارس دوره ومسؤوليته، إنه حقه الطبيعي والشرعي حسب صيرورة التاريخ، وعمره الآن 36 عام، أيضاً الجيل الذي ولد في الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 وعمره الآن 20 عاما هو مطالب أن يمارس حقه المساند للجيل الذي قبله وينتظر ممارسة دوره في القيادة، هكذا يجب أن تكون الرؤية على أسس طبيعية وديمقراطية سليمة تؤدي في نهاية المطاف إلى ما أسماه غسان كنفاني ” التبديل القيادي في الثورة ” وتداخل الاجيال لنجاح هذا المسار، وهو ليس بديلا عن منظمة التحرير وفصائلها لكنه بديلا عن رؤية العجز والقيادة المهزومة التي أوصلت القضية الفلسطينية إلى هذه المرحلة، انه بديلا عن من يتشدقون بالواقعية السياسية ويقولون أن العامل الموضوعي لا يسمح بمثل هكذا رؤية.
أليس العامل الذاتي هو الأساس ومحصلة طبيعية للعامل الموضوعي؟ وهو عبارة عن ذوات فاعلة قلبت الموضوع رأساً على عقب، لماذا لا يكون الشعب الفلسطيني فاعلا يؤثر في المنطقة والإقليم والعالم كله؟، أليس هو صاحب قضية عادلة؟، ولهذا نأمل أن يكون المسار الفلسطيني البديل قوة فاعلة وموضوعاً مؤثراً كبداية نحو الهدف الصحيح : إزالة وتفكيك المشروع الصهيوني وأدواته من فلسطين ومن قلب هذا الوطن العربي الكبير لينعم شعبنا مثل سائر وبقية شعوب العالم، بالحرية والتقدم والكرامة.