انعكاسات وآثار نهج مدريد – أوسلو التصفويّ على الثقافة الوطنية

سلامة الزريعي

(هذا المقال يبحث في سياق وكيفيه تدجين وإخضاع بعض الذهنيّات الفلسطينية والسيطرة على الوعي الهش بفعل نهج مدريد – أوسلو)

مع إنعقاد مؤتمر مدريد في العام 1991م شَكّل نهج التصفية محطة جديدة مُدمرة، مزّقت حركة تحررنا الوطني، وانعكست أثارها الكارثيّة على مسار القضية الوطنيّة الفلسطينية سياسياً واقتصادياً وأمنياً وقانونياً وأخلاقياً، طالت ذهنية وأفكار العديد من أجيال مختلفة وبخاصة الشباب وبعض الشرائح و “القيادات” الفلسطينية، وتجلّت أيضاً في حالة اللامبالاة من جهة وفي اللقاءات المباشرة مع المحتل للأرض الفلسطينية، الأمر الذي أدى إلى إنتشار مفاهيم جديدة، فانتشرت ظاهرة العزوف عن المشاركة مع انتشار المخدرات والمهلوسات والمهدئات هُروباً من الفقر وحالة الضيق والضجر التي غَزت أحزمة البؤس بقدر ما غزت العقول وخاصة الشباب الذين وجدوا أنفسهم أمام حائط أخير في مواجهة الهجمة الإعلامية المعادية والمفاهيم المدجنة للذهنيات والمُحبِطة للمعنويات.

يقول الفيلسوف وعالم الاجتماع “جان بودريار” “ليس الإعلام وهماً بل الإعلام هو الواقع، عقولنا يبنيها الإعلام، يبنيها كواقع وليس كوهم نصححه من خلال مرجع آخر هو واقع أبعد من الإعلام” ويقول  المنظر السياسي الماركسي “فريدريك جيمسون” في نقده لما بعد الحداثة “إن الإعلام ألغى التاريخ لأنه في العادة يركز على الحاضر وينسينا التاريخ ويبرز لنا الحاضر”.

وإذا كان من طبيعة الأشياء أن ينسحب على المفاهيم ما يطرأ على المجتمع البشريّ من وقائع ومتغيرات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وجغرافيّة أيضاً، فهذا ما يضمن دينامية المصطلح واستمراريته

غير أن بُنية مسار مدريد – أوسلو- أنتجت سيطرة مفاهيم ومصطلحات لا حصر لها، روجتها وسائل الإعلام المتصهينة وتلك الوكيلة الرجعية والخادمة للمشروع الامبريالي الصهيوني، كتسويق كلمات مثل “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” و”التنمية” فضلا عن عبارات مثل “الحكم الرشيد” و”محاربه الفساد” و”الاستقرار” و”التنسيق الأمني” و”التعاون الاقتصادي” و”الانتخابات” وبعض المفاهيم المُضَللَة التي تطعن مشروع الاستقلال الوطني والتحرر والمقاومة، انعكست على المنظومة الفكرية وشكلت مطرقة على الوعي المقاوم، وهذه المفاهيم تَولّد عنها تدجين ذهنيّ ساهم في تثبيت مفاهيم ليبرالية تتنافى مع روايتنا التاريخية وحالتنا الوطنية

تصب هذه الرموز والمفاهيم في خانه التصفية الذاتية دون وعي بما يجري في الواقع وكأن الأمر أصبح مسلماً به، فأصبحت الذهنيات على مستى الافراد والجماعات تتقبل وتسلم للشكل دون تفحص نقدي للجوهر، كما تجسّدت تداعياتها السلبيّة على وحدة الموقف المقاوم وفي نجاح معسكر العدو “الامبريالي، الصهيوني، الرجعي” ناهيك عن اختراقات في الموقف الفلسطيني العربي، فأصبحت أثارها ماثلة للعيان في عمليات التطبيع الجارية والمواقف المخزية الطاعنة في جدوى المقاومة.

أحدثت نتائج  مدريد – أوسلو شرخاً في الذهنية الشبابيّة أيضاً، ترك أثره السلبي على السطح الفلسطيني كما إنعكس على السلوك الفكري في ميادين عدة، فظهرت حالات  التقوقع على الذات والهروب الى حضن القبيلة و” المؤسسة” خاصة مع انتشار ظاهرة المنظمات غير الحكومية، في وقت من المفترض أن يلعب الشباب دوراً أساسياً من مواقع متقدمة في قيادة النضال الوطني الفلسطيني والنضال ضد محاولات تدجينهم وزجهم في خانة اللامبالاة والتشويه الفكري وعدم الاقتراب بكل ما هو وطني، والبحث عن الخلاص الفردي على قاعدة ” اللهم نفسي وفقط”.

كل هذه المفاهيم والمصطلحات ساهمت في أدلجة وتزييف وعي الجماهير وتوجيهها نحو أهداف تفتيت الوطن العربي، وتوجيه الجماهير نحو الترويج إلى حل الصراع العربي الصهيوني عبر التعايش بين الضحية والجلاد.

وقد تمخض عن ذلك مواقف سياسية انهزامية بددت ودمرت انجازات شعبنا في الداخل والخارج، مواقف لجني امتيازات ومواقف لصالح التواطؤ مع الرجعية والمعسكر الأمريكي والصهيوني، مبرراته في ذهنية تم تشكيلها منذ مدريد – أوسلو وأنتجت قوى طبقية متحالفة مع وسطاء الاستعمار الاقتصادي وعملائه.

إن العدو الصهيوني يستثمر في مشروع الهيمنة على الوعي العربي والفلسطيني، باستغلاله أيضاً وسائل التواصل الاجتماعي على اختلافها لتجنيد ضعفاء الوعي والنفوس، وهو سلاح يوقع ضحايا بين الفلسطينيين، فهناك من يصرع هذا السلاح عقله ويتمكن منه، فتصبح خبرته بشأن العدو مجرد أداة لنقل تهديداته، وتسريبها لوعي الجمهور الفلسطيني على أنها حقائق نهائية مسلم بها، ويجري استهداف كل من يحاول المقاومة بالوعي الثوري اليقظ والحس الوطني السليم.

ومن هنا تصبح مهمة تحرير الوعي الشعبي الفلسطيني من الأوهام ومن الإنغلاق على الذّات مهمة ثورية يومية تقع على عاتق الإعلام المُقاوم والمثقفين الثوريين والقوى الوطنية التي لا تزال تعبر عن الرواية التاريخية للشعب الفلسطيني.

وأخيراً، فإن النضال التحرري يكون في العمل بين الجماهير وتنظيمها واعتماد أشكال النضال الثوري بعيداً عن كل التُرّهات والمفاهيم الدعائيّة الزائفة، والسير لإنجاز مشروع الشعب الفلسطيني في التحرر والعودة وبناء دولة فلسطين الديمقراطية على كامل التراب الوطني.

 

 

Share this
Send this to a friend