الشتات:هل يُعيد القضيّة الفلسطينية إلى مَسارها الطبيعي؟

خالد بركات

 

الفصائل الفلسطينيّة التي اجتمعت في القاهرة برعاية المخابرات المصرية ارتكبت خطيئةً سيّاسيةً كبرى بحق الشعب الفلسطيني، وجريمة أكبر استهدفت حقوق اللاجئين الفلسطينيين على نحوٍ خاص. إذ لم تكتفِ بمصادرة حقهم في المشاركة السيّاسية فقط بل تَعمّدت أيضاً مواصلة تهميشهم كما فعلت على مدار العقود والسنوات الماضية وواصلت “القيادة الفلسطينية” نهج التدمير الذاتي وتجاهل وجود اللاجئين، بما في ذلك حقّهم الطبيعي في إنتخاب واختيار ممثليهم والحفاظ على مؤسَّساتهم الشعبية والنقابية والعسكرية التي شيّدوها بالنضال والتضحيات. ولم تحترم قيادة م. ت. ف صوتهم ولا حقهم في التعبير عن إرادتهم فكيف ستحمي وتصون حقهم في العودة وتقرير المصير؟

قوى السلطة الفلسطينية، ومعها الفصائل الصغيرة، الديكورية، تسعى إلى هندسة “انتخابات” لمجلس الحكم الذاتي و”تشكيل” المجلس الوطني الفلسطيني في الخارج – وليس إنتخابه بالطبع- وهذه السيّاسة الإقصائيّة هدفها تكرّيس هيمنة طبقة بعينها على القرار السيّاسي والحفاظ على امتيازاتها بالتكيّف التدريجي مع كيان الاستعمار الصهيوني والنظام العربي الرّسمي والرضوخ للاشتراطات الأمريكية – الأوروبية.

لقد تعودنا على مواقف السلطة الفلسطينية التي ترى في الخنوع حَلاً واقعياً وفي الإستسلام وجهة نظر ورؤية وطنية، رؤية تشبه سحنة الرجوب وحسين الشيخ وماجد فرج!

وتتذرع فصائل السلطة بصعوبة إجراء انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني في الشتات وتتكأ على عجزها وعلى تواطىء النظام العربي الرسمي. تهرب إلى عبارات من نوع ” إجراء الانتخابات حيثما أمكن” و بـ” التوافق الوطني” وهذه تعني حَرفياً نظام المُحاصصة والكوتا سيء الصيت والسمعة لكن على ألعن هذه المرّة. فأكثر الفصائل التي حضرت القاهرة تَحوّلت إلى قوى قمعية تقليدية في السلطة وتبحث عن مصالحها أو قوى هامشية عاجزة وخاوية لا حياة فيها ولا يحسب لها العدو الصهيوني أيّ حساب!

والحقيقة التي يعرفها الشعب الفلسطيني وخبِرَها بالتجربة العملية المريرة أن مواقف قوى الحكم الذاتي ليست جديدة وإنما تُعبر عن رؤية قاصرة واقصائية استهدفت صوت الفلسطينيين وشطب دورهم في المنافي والمهاجر القسرية.

قيادة السلطة في رام الله تتعامل مع حقوق اللاجئين باعتبارها عبئاً عليها، تتلعثم جماعة أوسلو أمام الأجنبي ولا تقوى حتى على لفظ “حق العودة” أمامه. وتعلك الكلام عن “حل متفق عليه مع دولة “اسرائيل“، تماماً كما تتعامل مع حصار غزّة ومع الحركة الوطنية الأسيرة ومع حقوق المرأة ومع الجرحى واللاجئين في أوروبا وكل القضايا الوطنية والاجتماعية الحارقة. تعتبر الشعب الفلسطيني كُلّه عبئاً ثقيلاً عليها.. وهذا في الواقع شعوراً مُتبادلاً بينها وبين الشعب الفلسطيني على أيّ حال!

جوهر المسألة في المشاركة الشعبية الفلسطينية ليس بالذهاب إلى صناديق الانتخابات بل حق الناس الأصيل في صناعة القرار وتحديد أولويات النضال الوطني والاجتماعي وتقرير مسار ومصير قضيتهم، في معنى وضرورة المشاركة ومضمونها الوطني الديمقراطي بوصفها حق وواجب لكل فلسطيني وفلسطينية ومسؤولية فرديّة وجماعيّة، وليس المطلوب مشاركة استعراضية شكلانيّة والذهاب كالقطيع إلى مراكز الإقتراع. 

وحين تُواصل أيّ سُلطة قمعية تعطيل سُبُل وآليات التغيير السلمي الديمقراطي وتواصل المكابرة والإستعلاء على الجماهير وتتحول المؤسَّسة العامّة إلى مزرعة وملكية خاصّة وتصل “القيادة” إلى حالة من الفَرعنة والقداسة، حين يحدث هذا وغيره تذهب الجماهير الشعبية نحو حلول من طراز آخر، غير الانتظار وفشة الخلق، وتفتش عن مسارات ثورية بديلة تحمي وجودها وماضيها وحاضرها ومستقبلها وثرواتها، وتنتزع هذه الحقوق بالقوة الشعبية والتنظيم الجماهيري.. وبالسلاح إذا إستطاعت إليه سبيلاً.

لقد أسَّست جماهير الشعب الفلسطيني في الشتات منظّمةِ التحرير الفلسطينية – للمرة الثانية في العام 1968 – وشيّدت ما يلزمها من الاتحادات النقابية والشعبية ومراكز البحث والتخطيط وأطلقت العمل الفدائي المسلح، وصاغت الميثاق الوطني وحققت بالنضال والفكر والعلم والابداع مكاسب سياسية وتاريخية كُبرى وذهبت طلائعها الثورية إلى آخر العالم تدق جدران الخزّان وخاضت معارك لا حصر لها في الأردن ولبنان وسوريا وغيرها في مواجهة مشاريع التصفية والالغاء التي استهدفت وجودها وسلاحها، تارة بالمجازر الدموية وتارة اخرى بالمؤامرات وقهر الفلسطينيين وتذويب هويتهم الوطنية.

وصَبَرت جماهير الشتات ولم ترفع الراية البيضاء فلماذا يجري اليوم تجاهل وجودها وحقوقها؟

ويسيطر على الكتلة الشعبية الفلسطينية التي تشكل 60% من الشعب الفلسطيني شعوراً قاسيّاً بالتخلي والخديعة الممزوجة بالمرارة والغضب،لأنها مطعونة ومطرودة بعد أن صادرت قيادة م .ت. ف صوتها وجرّفت مؤسَّساتها وهربت إلى قصور رام الله ثم تركتها في العراء على قارعة الطريق.

لقد تَحوّلت المخيمات الفلسطينية إلى أحزمة للبؤس والحرمان والفقر والمرض، مَقصيّة وهامشيّة متروكة للانروا و”الجمعيات الخيرية” وعصابات النهب والنهش..

وبعد أن خسرت الطبقات الشعبية الفلسطينية مشروعها الثوري التحرري خسرت سلطتها الشعبية ومؤسساتها. وخسرت صوتها، صارت تجمعات معزولة ومكشوفة الظهر لا صوت لها ولا كرامة، فضلاً عن حرمانها من أبسط الحقوق السيّاسية والإنسانية. عشرات الآف العائلات الفلسطينية من سوريا ولبنان وغزة تهجرت ولم يسأل عنها أحد… أين كانت قيادة منظمة التحرير؟

تُذكرُنا هذه الحقيقة الموجعة بما قاله يوماً الأديب الشهيد غسّان كنفاني حين اعتبر أن الجريمة التي توازي جريمة خلع الفلسطينيين عن أرضهم هي جريمة خلعهم عن قضيتهم! 

في الوقت ذاته تخضع التجمعات الشعبية الفلسطينية في عموم فلسطين المحتلة إلى حالة غير مسبوقة من الحصار والقوانين العنصرية الاستعمارية، وتعيش الطبقات الشعبية في جزر ومستنقعات من إستلاب الإرادة والوعي وفقدان الثقة على التغيير، فالكيان الصهيوني المجرم لا يترُك شكلاً من أشكال القهر والاضطهاد والحصار ولا يُجرّبه، كما أن السلطة الفلسطينية أضافت المزيد من الأعباء على كاهل الناس في الأرض المحتلة.

في الوقت ذاته تعمل القوى المُعادية على إيهام الجماهير أن “الانتخابات هي الحل السحري” لكل مشاكلها، وستخلصها من العذاب والحصار والاحتلال والانقسام والفقر والعنصرية!

تُدفع الجماهير الفلسطينية في ” الداخل” إلى صناديق الانتخابات دَفعاً، يَستحضرها السَحَرَة وكهنة الحكم الذّاتي والإعلام الرّسمي والحزبيّ وأنصار بايدن وغانتس وجيش العرافين والعرافات متى أرادوا ثم يرسلونها إلى أفران التيه ومجاهل الإقصاء من جديد. لقد وضعوا الجماهير الشعبية أمام مفاضلة عجيبة: بِدكم انقسام ولا انتخابات؟ بدكم حصار ولا انتخابات؟ بدكم وطن ولا مصاري؟ بدكم غانتس ولا نتنياهو؟ بدكم فتح ولا حماس؟ يلا قرروا !

هكذا تُسحق الكرامة الانسانية في فلسطين المحتلة، وهُنا بالضبط تكمُن خطورة السلطة الفلسطينية والقوى التي تتساوق مع مشروع تقسيم الشعب الفلسطيني بعد تقسيم وطنه وعزل تجمعاته ومخيماته في جزر ومعازل مُحاصرة. واليوم تعمل أجهزة مخابراتية ودول وأحزاب ومؤسسات كبرى على ضرب وحدته السيّاسية والعبث بمصيره ومستقبله المشترك.

هل تدفع هذه الحقيقة الباردة “الشتات الفلسطيني” إلى جمع قواه والنهوض الثوري مرة أخرى والسير المنظم الواعي نحو ميادين العمل والحوار والتنظيم والتجدد؟ كيف يتحمل مسؤولياته تجاه نفسه وتجاه نصفه الثاني في فلسطين؟

استعادة الشتات لدوره القيادي والمركزي يخدم شعبنا في فلسطين المحتلة أولاً، وهذا الهدف لا يتحقق برغبة شخصيّة أو قرار مجموعة هُنا وأخرى هناك. إنها عملية نضاليّة شاقة وتاريخيّة وتراكميّة يخوضها الشعب وتشارك فيها فئاته الشعبية كلها، ولا يمكن التقدم خطوة واحدة مُكتملة وناضجة نحو هذه الجبهة دون أن يكون للنساء وللطلائع الوطنية من الجنسين الدور القيادي والمُبادِر فيها.

كيف يجمع الشتات الفلسطيني أشلاءه وعناصر قوته الكامنة ويتمرّد؟ وكيف تُحرر المخيمات صوتها وإرادتها وتُعيد قضيّة فلسطين إلى مسارها الطبيعي على سِكة العودة والتحرير؟ هذا السؤال الجماعي يفضح أكثر مما يستر، ولن يجيب عليه إلا طليعة فلسطينية ثورية مُقاتلة ترى كل فلسطين ويحتضنها شعب الخيام!

يُنشر المقال بالتعاون مع موقع الصفصاف

Share this
Send this to a friend