مؤتمر المسار  البديل ..رياح جديدة تَهبُ على القضيّة الفلسطينيّة

 

خوانلو جونزاليس*

 

منذ ما يَقرُب  30 عامًا بعد حرب الخليج عام 1991 وَعدنا  السياسيون ووسائل الإعلام الإسبانية بسعادة بالغة لأن بلادنا كانت – لمرة واحدة – في بؤرة الدبلوماسية العالمية على حد قولهم وكانت تساهم بشكل حاسم في حل واحدة من أكثر المشاكل تعقيداً وأخطرها في التاريخ المعاصر : الصراع العربي الإسرائيلي أو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

واستمر ما يسمى “مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط” ثلاثة أيام وتفاخر بصياغة مفهوم أو “نموذج السلام للأقاليم” حيث تركزت المحادثات حول القرار 242 بشأن “عدم جواز الاستيلاء على الأراضي من خلال الحرب” والقرار  338 الذي يعزز  القرار السابق ويحث “جميع الأطراف على إعلان سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط” مع ذلك، لم يكن المؤتمر ناجحًا كما توقع منظموه، رغم اعتباره أنه أرسى الأسُّس للجولات المقبلة من المفاوضات، لا سيما اتفاقيات أوسلو 1993

لكن إذا ابتعدنا عن الرواية الرّسمية تُصبح الأمور مختلفة تمامًا.

الكيان الصهيوني حَقَق في مؤتمر مدريد نجاحًا لا هوادة فيه. مجرد أن تلقي نظرة على صفحة الحكومة الإسرائيلية بشأن عملية السلام لترى كيف كانت نقطة تحوّل حقيقية. لم تؤثر “عملية السلام” على علاقات “إسرائيل” مع العالم العربي وحسب، بل حسّنت أيضًا بشكل كبير مكانتها في المجتمع الدولي من الناحية الكميّة حيث تُقيم “إسرائيل” اليوم علاقات دبلوماسية مع 163 دولة بزيادة قدرها 71 دولة منذ انعقاد مؤتمر مدريد عام 1991.

ماذا حَصَد الجانب الفلسطيني؟ لا نبالغ إذا قلنا :لا شيء على الإطلاق. على الرغم من أننا سنكون مخطئين، لأنه في الواقع لم يكُن هناك ما يضُر القضية الفلسطينية أكثر من الوضع الذي نشأ عن ثنائية مدريد – أوسلو. ومن السهل التكهن بذلك، فكلّما زاد اعتراف الدول بالنظام الصهيوني القائم على أرض فلسطين قَل الضغط الذي سيشعر به (الصهاينة) وقلَّت الحاجة إلى الخضوع للقرارات التي يُمليها القانون الدولي. إن حقيقة جلوس الدول العربية على طاولة واحدة مع العدو أضعفت بالفعل الطموحات الوطنية الفلسطينية.

لقد حدث هذا بالفعل في التاريخ الفلسطيني الحديث في عدة مناسبات. لعل أوضح سابقة هي قبول ياسر عرفات لخطة بريجنيف عام 1974 التي صادق عليها المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الـ  12 ، والتي صادقت أيضا على خطة عرفات المكونة من 10 نقاط (البرنامج المرحلي) حيث بدأ مسار المفاوضات وانتهاء المقاومة المشروعة مقابل اعتراف الأمم المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية. أدى هذا التنازل إلى إنشاء جبهة الرفض بقيادة الدكتور جورج حبش (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) باعتباره الشخصية الأكثر وضوحًا.

لكن أوسلو كانت أسوأ عندما يُنظر إليها من حيث ترويض القضية الفلسطينية وإبعادها عن المقاومة. إن القبول النهائي للقرار 242 والاعتراف بإسرائيل عَني التخلّي عن أي مطالبة بفلسطين التاريخية. وأصبحت السلطة  الفلسطينية التي انبثقت عن الاتفاقات ملحقة بـ “إسرائيل”. أصبحت الشرطة الفلسطينية سجّانة لشعبها تقمع أي نوعٍ من المعارضة أو المقاومة، ووقع هذا كلّه بينما وصلت ممارسات الاحتلال إلى مستويات لم يسبق لها مثيل وانتقل حوالي نصف مليون مهاجر (مستعمر) يهودي إلى فلسطين وحدث تطهير عرقي فاضح في مدينة القدس.

مرة أخرى، على الرغم من التنازلات المؤلمة والخطوات التي اتخذتها منظمة التحرير الفلسطينية فإن “إسرائيل” لم  تخطو خطوة واحدة نحو التزاماتها في اتفاق أوسلو. وظلّت السلطة الفلسطينية تثق بكل شيء في عمل اللجنة الرباعية في مدريد حتى العام 2002 الأمر الذي يثبت عدم جدواه تمامًا في إنهاء الاحتلال الاسرائيلي المستمر لدرجة أن نموذج الدولتين لفلسطين التاريخية  على حدود عام 1967 يصبح مستحيلًا تمامًا.

وبرغم كل شيء ورغم فشل أوسلو، والفساد المستشري، الداخلي والخارجي، تظل السلطة الفلسطينية  تركز على قمع شعبها  وتقويض أي مبادرة لتحرير فلسطين وتتعاون مع القوات الإسرائيلية لوقف أيّ معارضة فلسطينية.

إدارة ترامب كانت تتجاهل القرارات والاتفاقيات والإجماع الدولي وتخطت جميع الخطوط الحمراء مع “صفقة القرن” وأعدت نهجًا اقتصاديًا لمعالجة الصراع الذي أدى على الرغم من كونه فشلًا مزعومًا إلى نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وخيانة مجموعة من الدول العربية التي تخلّت عن الإجماع التاريخي في مبادرة السلام العربية (قمة بيروت 2002 ) الخاصة بها مقابل انضمامها إلى جوقة الجمهوريين المحافظين في الولايات المتحدة.

الوضع لا يمكن أن يكون أكثر سوءً بالنسبة للقضية الفلسطينية.

إن الدعوة إلى الانتخابات التشريعية وما يطرحه محمود عباس أبو مازن رئيس السلطة  الفلسطينية للخروج من المستنقع لن تخدم أي غرض جوهري، بل تعكس ميزان القوى الحالي من أجل إدامة اتفاقيات أوسلو التي ولدت ميتة كما اعترَفَ بذلك العديد من قادتها.

وتتكاثر الأصوات الفلسطينية من  الداخل والخارج الداعية لحل السلطة الفلسطينية والانسحاب من الاتفاقيات وهم يَدعون إلى نهج جديد يقود فعلاً إلى تحرير فلسطين و إعلان دولة ديمقراطية كاملة السيادة وإعمال حق العودة لملايين الفلسطينيين المُهَجّرين من أرضهم.

في هذا السياق ولد المسار البديل،. إن مؤتمر المسار الفلسطيني البديل جاء إدانة لمؤتمر مدريد “للسلام”، وبعد ثلاثة عقود تستضيف مدريد شخصيات فلسطينية من مختلف الانتماءات السياسية والأيدلوجية، من داخل الأراضي المحتلة والشتات، وممثلي الدول المتضامنة -حقًا- مع القضية الفلسطينية المناهضة لعملية التطبيع التي ولدت من “عملية سلام” التي لم تكن موجودة أصلاً ؛ كذلك مشاركة منظمات غير حكومية وحركات اجتماعية ناشطة في الدفاع عن القضية والحقوق الفلسطينية فضلا عن حملات مقاطعة إسرائيل.

وباستخدام الوسائل التقنية الحديثة سيتواصل المسار البديل مع أيّ مكان في العالم يوجد فيه من يساهم لصالح النضال الوطني وتحرير الشعب الفلسطيني وستكون جلساته متاحة للمتابعة عبر  الإنترنت في جميع أنحاء الكوكب.

المسار البديل يقول أنه أكثر من ذلك بكثير. فمثلما كان مؤتمر مدريد 1991 انتكاسة واضحة للقضية الفلسطينية ، يهدف مؤتمر المسار الفلسطيني البديل 2021 إلى أن يكون نقطة تحول توقظ ضمائر الشعب الفلسطيني. إنهم يراهنون على نماذج جديدة بعيدًا عن عمليات التفاوض الأبدية الفارغة التي لا يَقصد بها الكيان الصهيوني أكثر من احتلال 100٪ من فلسطين التاريخية والقضاء التّام على الحقوق القومية لشعبٍ أظهر أكثر من الكرامة والالتزام بحقه في تقرير المصير ومستقبل حُرّ ذي سيادة.

يجب أن يحتل النضال الفلسطيني، باعتباره رمز المقاومة الأممية المناهضة للإمبريالية، مكانته الصحيحة مرّة أخرى على جدول الأعمال السياسي العالمي، وخاصة في الدول العربية التي خانت قضيتها بسبب المصالح الزائفة للقادة الفاسدين في خدمة الدولة الصهيونية والإمبريالية. كما يجب أن تنظُر فلسطين مرة أخرى إلى أولئك الذين دافعوا عنها دائمًا رغم كل الصعاب بغض النظر عن التكتيك والظروف السياسيّة أو الشخصيّة.

وعلاوة على ذلك، وبدعوة من مبادرة المسار البديل، تعمّقت فكرة واضحة في جميع وثائق المؤتمر وبياناته. لقد فشل جيل القادة الفلسطينيين في مدريد وأوسلو وفشلت محاولتهم تحقيق وطن قومي للشعب الفلسطيني، وبعد ثلاثين عامًا يوجد جيل فلسطيني جديد من الشابات والشبان مستعدون وراغبون في تولي زمام الأمور من قبضة القيادة الفلسطينية المهزومة والمستسلمة، وقيادات مخترقة حتى النخاع من قبل إسرائيل والولايات المتحدة، لا يملكون أي شيء يمكنهم تقديمة للمساهمة في النضال من أجل تحرير شعبهم.

سيكون تجديد الأشخاص والهياكل بلا شك أحد أكثر النقاشات تشويقاً التي ستجري في مؤتمر المسار الفلسطيني البديل في مدريد .. قادة جُدُدْ لِعصرٍ جَديدْ

(ناشط دولي ومحلل جيوسياسي. يُشارك في العديد من البرامج ووسائل الإعلام العامة المحلية والدولية)

Share this
Send this to a friend