صورة: مظاهرة من مدينة نيويورك- الثلاثاء 11 مايو 2021

 

فلسطين: الشَعب يُعيدْ تصويب البوصلة.. ماذا بعد؟

 

خالد بركات

 

بعد 73 عاماً على تأسيس الكيان الصهيوني، وفي فضاء ذكرى النكبة المستمرة التي يعيشها شعبنا الفلسطيني، وبعد  30 عاماً على إجهاض الانتفاضة الشعبية الكبرى في فلسطين وبدء مشروع التصفية – بالتدريج – للحقوق الفلسطينية عبر مسار “مدريد- أوسلو” يُعيد الشعب الفلسطيني المناضل، بالعصيان الشعبيّ والتمرد والمقاومة المسلحة الباسلة، يُعيد تصويب البوصلة الشعبية العربية مرّة أخرى، نحو فلسطين .. كُل فلسطين ..وفي القلب نحو عاصمته : القدس المُحتلّة.

لقد سَقطت مسارات الكذب والتفاوض والوهم والعبث، سَقطت تحت أقدام شباب وصبايا القدس واللد وحيفا، ووصلت سلطة الحكم الذاتي ومشروع الدولة المسخ إلى الحائط الأخير. ولم يعُد شعبنا مُستعداً لشراء “سمك في بحر” كما يقول المثل الشعبي، ولا سماع كلمة واحدة من كهنة وتجار أوسلو عن “المجتمع الدولي” و ” الرباعية الدولية” و”المبادرة العربية” وغيرها من أسماء واتفاقيات باتت تثير في الشارع مشاعر الغضب والقرف والغثيان أكثر من أي وقت مضى، كما لن يقبل بأيّ حلول تنتقص من حقوقه الوطنية أو تُعيد أنتاج الكوارث وطريق التيه..

باختصار، كل ما يجري في فلسطين والشتات وكل هذا الغضب الشعبي يقول: خَلَصْ.. طفح الكيل.

وإذا كانت الصرخات التي انطلقت من حناجر الناس والجموع الثائرة في الناصرة وحيفا وعكا واللد والقدس وغزة ومخيمات الشتات والمهاجر كافية لمعرفة الجواب على سؤال: ماذا يريد الشعب؟ فإن الشعب الفلسطيني يريد أن يحرر قراره الوطني المصادر على يد عصابة أوسلو في رام الله. يريد تصويب البوصلة العربية والأممية نحو فلسطين، يريد ان يستعيد طريق العودة والتحرير. يريد أن يبني على انجازاته التاريخية الكبرى التي حققها بالدم والعذاب وتبددها سلطة أوسلو، ويريد أن يرى وحدة وطنية حقيقية مُجسدة في جبهة للمقاومة هدفها التحرير والعودة، تصون الثوابت والحقوق وترى كل الشعب لا جزء منه فقط وكل الوطن لا 22 % فقط. يريد أن يراهن على نفسه وعلى طلائع الجيل الثوري الجديد، يستعيد زمام المبادرة من طبقة عميلة ومأجورة صادرت صوته ودمرت كل مؤسَّساته ودفعته إلى غياهب ومجاهل الإقصاء والعزلة.. عَزلته حتى عن قضيته.

لقد استطاعت الطلائع الوطنية الفلسطينية في فلسطين ومعها الطبقات الشعبية الفلسطينية التي خرجت للتظاهرات والعصيان، مسنودة بنار المقاومة الباسلة من قطاع غزة والحراكات الشعبية المتواصلة في الشتات، استطاعت أن تُجسد وحدة الشعب والأرض والقضية. واليوم، ليست “اسرائيل” وحدها محشورة في الزاوية بل معها كل معسكر العدو والتطبيع.

وبفعل الهبة الشعبية الفلسطينية المتصاعدة، في كل فلسطين وعلى امتداد الشتات، سقطت الرواية الصهيونية التي تحاول تصوير الصراع في القدس وفلسطين على أساس ديني مَحض، ذلك لإن اتساع مشاركة كل فئات شعبنا من مختلف اطيافة الدينية والسياسية والفكرية تُبطل مثل هذه المقولات الصهيونية وتدحض اعلامها المُضلِل، وتؤكد صحة واتساق الرواية الفلسطينية التاريخية حول ماهية وجوهر الصراع في مواجهة الاستعمار الصهيوني الاستيطاني العنصري في فلسطين.

كما استطاعت جماهير شعبنا، بالإرادة الصلبة والتلاحم الوطني أن تُعيد تصويب البوصلة الشعبية العربية نحو القدس من جديد. وتكبح مشاريع التطبيع التي بدأت تتصدع وتتهاوى أمام إرادة الشعب الفلسطيني وعنفوانه الثوري، فشعبنا هو الذي يعرف جيداً أن بوصلة لا تُشير إلى حيفا ويافا والقدس هي حتماً بوصلة مضللة ومشبوهة كما يقول الشاعر العراقي الكبير مُظفَّر النُواب.

ولكن..

تَظل العثرة الفلسطينية الكبرى الداخلية معروفة لا تحتاج إلى الكثير من التحليل: انها طبقة أوسلو ، وكيانها الأمني الاقتصادي العميل التابع لمنظومة الاستعمار الصهيوني الأمريكي الأوروبي. هذه الفئة الوكيلة للاحتلال التي تُهيمن على القرار السياسي الفلسطيني وتسيطر بالقوة على مؤسَّسات الشعب لا تزال تتحكم في مصيرنا. إنها العقبة الكبيرة الداخلية التي تُفرمل كل فعل مقاوم وتقف في طريق الشعب الفلسطيني، فضلاً عن قوى فلسطينية تشبهها كانت تتحفز  قبل شهر واحد فقط كي تورث شريكها السابق محمود عباس، وتنتظر دورها وحظّها وقد عادت إلى جحورها حيث تقبع في الإمارات وقطر والسعودية ومصر وغيرها.

على القوى الفلسطينية في إطار حركة المقاومة أن تحسم أمرها وقرارها، أن تعرف ماذا تريد هي أولاً. فهل تريد مواصلة العبث وجلسات حوار الطرشان مع زواحف المرحلة في مقاطعة رام الله برعاية المخابرات المصرية والقطرية؟ أم تكون عكس تيار أوسلو ونقيضه، وتُقدم نموذجاً محترماً وثورياً ومغايراً يحظى بثقة الشعب الفلسطيني؟

وهل تظل هذه القوى تتلطى خلف عبارات ممجوجة لا تعني أيّ شيء أم تمتثل لقرار الشعب الفلسطيني وتحترم إرادته الوطنية الحرّة ؟ وهل تبدأ في الإعداد إلى تأسيس جبهة وطنية موحدة يشارك فيها المناضلات والمناضلين ويكون الميثاق الوطني الفلسطيني مرجعيتها أم تظل تدور في فلك الأنظمة والمحاور المتنافسة على الرضى الأمريكي الصهيوني؟

إن الاستعداد الكفاحي لدى شعبنا وقدرته واحتماله من أجل وطنه ليست خياراً، بل قدراً محتوماً، ولم تبدأ مرحلة صموده قبل أيام بل قبل قرن من الزمان لكن هذا الاستعداد العالي للتضحية والبذل لا يكفي وحده لتحقيق أهدافه الكبرى دون أن يقابله تحرير قراره السياسي ودون رؤية وقيادة وممارسة نضالية تكون بمستوى هذه التضحيات والتحديات الرّاهنة.

كم مرّة انتفض شعبنا منذ العام 1917 وأطلق ثورات مسلحة وانتفاضات شعبية ثم وجد نفسه يقف على أرض أقل بسبب قيادة مهترئة تطعنه في ظهره وتراهن على الوهم وتبحث عن امتيازاتها ؟ ثم لا يلبث أن يجد نفسه محاصراً من كل الجهات دونما نصير أو سند؟

وعليه، فإن الشعارات السياسية الناظمة لأهداف حركته النضالية التحررية تعني عبور مرحلة نضالية نوعية وجديدة تقطع بالكامل مع تيار الهزيمة ونهج أوسلو ، وتؤسس إلى جبهة وطنية للتحرير والعودة .. جبهة مرجعيتها حقوق الشعب الفلسطيني وثوابته الوطنية والقومية والإنسانية.

 

Share this
Send this to a friend