الوظيفة الجوهرية للسلطة الفلسطينية

جوزيف مسعد

 

نعيد نشر المقال من موقع عربي 21

ليس القتل المروع الذي تعرض له المعارض الفلسطيني نزار بنات الأسبوع الماضي على يد شرطة المرتزقة التابعة للسلطة الفلسطينية أكثر من أحدث مظهر من مظاهر إنشاء السلطة الفلسطينية من خلال اتفاقيات أوسلو، التي تم التوقيع عليها في أيلول/ سبتمبر 1993، كسلطة متعاونة مع نظام الفصل العنصري الإسرائيلي برعاية أمريكية. أعقب اتفاقيات أوسلو اتفاق القاهرة في أيار/ مايو 1994 والذي نص تحت عنوان “الأمن الفلسطيني” على أن “الشرطة الفلسطينية ستعمل تحت إشراف السلطة الفلسطينية وستكون مسؤولة عن الأمن الداخلي والنظام العام. وستضم 9000 شرطي، 7000 منهم قد يأتون من الخارج. سيعمل الفلسطينيون على منع الإرهاب ضد الإسرائيليين في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم”، وتلك كانت شهادة ميلاد هذه القوة المرتزقة التابعة للسلطة الفلسطينية، والتي كلّفها الإسرائيليون بقمع وقتل المقاومين الفلسطينيين.

وقد تم إضفاء الطابع الرسمي على هذه الترتيبات مرة أخرى وتم تمديدها في اتفاقية أوسلو الثانية، الموقعة في طابا في أيلول/ سبتمبر 1995، والتي تم الاحتفاء بها بعد أربعة أيام في واشنطن، تحت رعاية وإشراف الرئيس بيل كلينتون وسفير الاتحاد الأوروبي وآخرين، والذين أشرفوا على الحفل، حيث وسّع جيش الاحتلال الإسرائيلي تكليفه “الشرطة الفلسطينية” بـ”المسؤولية عن النظام العام والأمن الداخلي” التي كانت تضم غزة وأريحا في حينه، لكي تضم أيضا ما أصبح تسمى “المنطقة أ” من الضفة الغربية. وقد تعهدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي (الأخير على الأقل منذ عام 2006) بتمويل وتدريب الشرطة الفلسطينية المكلفة بقمع الشعب الفلسطيني وحماية المستعمرين اليهود.

لذلك تبدو تصريحات ومشاعر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في أعقاب جريمة قتل نزار بنات على يد مرتزقة الشرطة الفلسطينية الذين قاما بتدريبهم وتمويلهم غير مفهومة. فقد صرحت وزارة الخارجية الأمريكية بأن واشنطن “منزعجة” من وفاة بنات: “لدينا مخاوف جدية بشأن القيود التي تفرضها السلطة الفلسطينية على ممارسة الفلسطينيين لحرية التعبير ومضايقة نشطاء ومنظمات المجتمع المدني”؛ بينما صرح الاتحاد الأوروبي بأنه “صُدم وحزن لوفاة الناشط والمرشح التشريعي السابق نزار بنات بعد اعتقاله من قبل قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية الليلة الماضية”. ويظل سبب شعور الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بـ”الانزعاج” أو “الصدمة” و”الحزن” غير واضح في ظل قيام الشرطة الفلسطينية بتأدية وظيفتها التي تم إنشاؤها من أجلها، والتي من أجلها مولتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودربتها عليها منذ إنشائها على أكمل وجه.

كان إنشاء شرطة السلطة الفلسطينية تكرارا، وربما استنساخا، لتجربة استخدام دولة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في استخدام شرطة مكونة من السود لقمع مقاومة السود قبل عام 1994، وهو الترتيب الذي حدَّ من تعرض حياة رجال الشرطة البيض للخطر

في الواقع، كان إنشاء شرطة السلطة الفلسطينية تكرارا، وربما استنساخا، لتجربة استخدام دولة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في استخدام شرطة مكونة من السود لقمع مقاومة السود قبل عام 1994، وهو الترتيب الذي حدَّ من تعرض حياة رجال الشرطة البيض للخطر. فقد مثّل تكليف المرتزقة الفلسطينيين منذ عام 1993 بالمهام القمعية المنوطة سابقاً قسرياً بالاحتلال العسكري الإسرائيلي بمثابة تغيير مرحب به لدى الإسرائيليين، الذين استمروا في السيطرة على الأرض والمياه والحدود والاقتصاد والمستعمرات الاستيطانية اليهودية، باختصار، كل ما كانت تسعى إسرائيل للسيطرة عليه، ولكن دون الحاجة إلى قمع المقاومة الفلسطينية بمفردها، والتي كانت تعرّض حياة الجنود اليهود للخطر وتعرّض سمعة إسرائيل لتغطيات صحفية نقدية.

لقد كان رئيس الوزراء إسحاق رابين صريحاً في هذا الشأن: “أفَضِّل أن يتعامل الفلسطينيون مع مشكلة فرض النظام في غزة، حيث سيكون الفلسطينيون أفضل منا في ذلك، لأنهم لن يسمحوا بالاستئناف أمام محكمة عليا وسيمنعون الجمعية [الإسرائيلية] للحقوق المدنية من انتقاد الأوضاع هناك بمنعها من الوصول إلى المنطقة. سيحكمون هناك بأساليبهم الخاصة، ويحررون، وهذا هو الأهم، الجيش الإسرائيلي من الاضطرار إلى القيام بما سيقومون به”.


في الواقع، كانت الوظيفة القمعية لشرطة السلطة الفلسطينية جلية بالفعل حتى قبل أشهر من وصول عرفات إلى غزة في تموز/ يوليو 1994. فقد قام ثلاثة من ضباط المرور (قاموا بتعيين أنفسهم رقباء على المرور) من جماعة “صقور فتح” المسلحة، التابعة لجناح عرفات في منظمة التحرير الفلسطينية، بإصدار أوامرهم لسائق سيارة في غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 1993 لنقل سيارته من مكانها، وعندما رفض السائق الامتثال لأوامرهم، أطلقوا النار عليه وأصابوه في ساقيه.وقد عبّر كلايد هابرمان، مراسل صحيفة نيويورك تايمز في إسرائيل في حينها، عن قلقه بشأن قدرات الشرطة الفلسطينية على حماية المستوطنين اليهود، عندما تتولى السلطة الفلسطينية مسؤولياتها الأمنية، وأكد أنه “عندما تبدأ تلك القوة في ممارسة مسؤولياتها في كانون الأول/ ديسمبر [1993]، سيتعين عليها إثبات جدارتها. بالتأكيد، عليها أن تبرهن بأنها ستستطيع أن تقوم بما هو أفضل مما قام به رجال المرور الثلاثة الذين عينوا أنفسهم.. فيجب على الشرطة العربية أيضاً أن تثبت بأنها ستقوم بحماية الإسرائيليين [اليهود] الذين يعيشون في المناطق [المحتلة] ويعبرونها”.

وفي أعقاب هذه السابقة وأعقاب وصف عرفات وزملاؤه لجميع الفلسطينيين من معارضي استسلام أوسلو بـ”المتطرفين”، فقد تعهد سفير منظمة التحرير الفلسطينية في تونس ومستشار عرفات المقرب في ذلك الوقت، حكم بلعاوي، على التلفزيون الإسرائيلي بـالقيام بـ”سحقهم”. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1994، وبعد دخولها غزة بوقت قصير، قامت شرطة عرفات بقتل أربعة عشر فلسطينيا أعزل وجرحت 200 عقابا لهم على التظاهر ضد اتفاق أوسلو.

وقد أشاد نائب الرئيس الأمريكي آنذاك آل غور، أثناء زيارته لغزة في أوائل عام 1995، بعرفات نتيجة إنشاء الأخير محاكم عسكرية لمحاكمة الفلسطينيين المعارضين لاتفاقيات أوسلو.

وفي حين قامت وكالة المخابرات المركزية بتدريب شرطة السلطة الفلسطينية سراً في البداية، فقد تولت الولايات المتحدة لاحقاً المسؤولية الكاملة عن تدريبها. وقد أشرف الفريق كيث دايتون، الذي شغل منصب المنسق الأمني الأمريكي مع السلطة الفلسطينية من كانون الأول/ ديسمبر 2005 إلى تشرين الأول/ أكتوبر 2010، على تدريبهم وعلى الانقلاب الذي قاموا به على حركة حماس المنتخبة ديمقراطياً في عام 2007.

وفي عام 2006، كانت الولايات المتحدة قد بدأت، وفقاً لصحيفة “هآرتس”، في تدريب “الحرس الإمبراطوري” لمحمود عباس في أريحا على مدى أكثر من شهر، باستخدام مدربين عسكريين أمريكيين وبريطانيين ومصريين وأردنيين، وتزويدهم بالعتاد استعداداً لمواجهة مع حماس لإزاحتها عن السلطة بعد انتخابها الديمقراطي.

ينبغي على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن يفخروا بإنجازاتهم كما يفعل الإسرائيليون الذين يواصلون الثناء على الأجهزة الأمنية المرتزقة التابعة للسلطة الفلسطينية. والواقع أن السبب في ذلك هو أن الشرطة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية حققت نجاحاً إسرائيلياً باهراً وينسب إليها الإسرائيليون الفضل،

وقد وافق مجلس الوزراء الإسرائيلي في حينه على نقل آلاف البنادق من مصر والأردن إلى مرتزقة عباس. كما وافق الإسرائيليون على طلب أمريكي بأن تسمح إسرائيل لـ ” قوات بدر” – وهي جزء من جيش التحرير الفلسطيني المرابط آنذاك في الأردن – بالانتشار في غزة. وقد صاغ الفريق كيث دايتون هذه الخطوات، حيث أراد أن يحول قوات بدر إلى “قوة رد فعل سريع لعباس في غزة”. وقبل مجيئه إلى الضفة الغربية، كان دايتون منشغلاً بخوض حرب الولايات المتحدة على الشعب العراقي في عام 2003.

أما الاتحاد الأوروبي فقد قام بدوره بتمويل وتدريب شرطة السلطة الفلسطينية على نفس المهام، من خلال مكتب تنسيق شرطة الاتحاد الأوروبي لدعم الشرطة الفلسطينية منذ 2006.

عندما ألغى محمود عباس مؤخراً الانتخابات البرلمانية للسلطة الفلسطينية التي كان مقرراً إجراؤها في 22 أيار/ مايو، ناشد نزار بنات، الذي كان مرشحاً على القائمة الانتخابية المستقلة للحرية والكرامة، إلى جانب باقي أعضاء قائمته، محاكم الاتحاد الأوروبي بما في ذلك محكمة حقوق الإنسان في ستراسبورغ، بوقف فوري للمساعدات المالية الأوروبية للسلطة الفلسطينية. كان نزار يأمل في أن تجبر مناشدته الاتحاد الأوروبي على التوقف والامتناع عن دعمه المستمر وتدريبه للسلطة الفلسطينية وشرطتها على قمع الفلسطينيين من أمثاله. ومن المحتمل جداً أن يكون هذا عاملاً مساهماً رئيساً في القرار الذي اتخذه مرتزقة السلطة الفلسطينية بتنفيذ ما دربتهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على القيام به بشكل ممتاز، وهو تعذيب نزار واغتياله.

قد يكون من المحتمل جداً أن تكون نهاية السلطة الفلسطينية المتعاونة تلوح في الأفق، حيث يدرك مؤسسوها ومموّلوها الآن أنه لم يعد لها نفوذ كبير على الشعب الفلسطيني

ينبغي على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن يفخروا بإنجازاتهم كما يفعل الإسرائيليون الذين يواصلون الثناء على الأجهزة الأمنية المرتزقة التابعة للسلطة الفلسطينية. والواقع أن السبب في ذلك هو أن الشرطة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية حققت نجاحاً إسرائيلياً باهراً وينسب إليها الإسرائيليون الفضل، كما يجب وينبغي، في منعها المستمر لغالبية عمليات المقاومة الفلسطينية ضد جيش الاحتلال والمستوطنين اليهود. إلا أن جريمة تعذيب وقتل نزار بنات جاءت في وقت وصلت فيه الشرعية الدولية للسلطة الفلسطينية إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، في أعقاب إنجازات المقاومة للشعب الفلسطيني عبر فلسطين التاريخية الشهر الماضي، وهي مقاومة تواصل السلطة الفلسطينية قمعها.

قد يكون من المحتمل جداً أن تكون نهاية السلطة الفلسطينية المتعاونة تلوح في الأفق، حيث يدرك مؤسسوها ومموّلوها الآن أنه لم يعد لها نفوذ كبير على الشعب الفلسطيني. فلم يعد في وسع السلطة، كما في السابق، استخدام آلياتها الإدارية والمالية والإعلامية (التي استنفدت) إلى جانب قمع أجهزتها الأمنية لبسط نفوذها على الضفة الغربية. فلم يتبقَ لدى السلطة اليوم غير أجهزتها القمعية، كما اتضح من تعاملها مع التظاهرات الفلسطينية في الضفة الغربية احتجاجاً على مقتل بنات في الأسبوع الماضي، حيث اعتمدت قسرياً على الضرب العلني وإطلاق النار على كل من يعارض خيانتها، كما فعلت الشرطة الفلسطينية في غزة عندما تم إنشاؤها في عام 1994. لكن لا يمكن لأي قدر من القتل أو الضرب أن يوقف زخم المقاومة الفلسطينية، وهذا درس ما انفك الإسرائيليون، الذين تعمل السلطة الفلسطينية لديهم، يتعلمونه بصعوبة بالغة.

 

Share this
Send this to a friend