معاداة السامية البريطانية قديمة قدم بريطانيا، لكن كير ستارمر قد رأى في الأسبوع الماضي بأنه من المناسب الاعتذار عن معاداة حزب العمال البريطاني المزعومة للسامية في “السنوات الأخيرة” فقط، متجاهلاً التاريخ المخزي لمعاداة السامية البريطانية في القرون السبعة الماضية. لقد كان الأجدر بستارمر أن يعتذر أولاً عن المواد الثلاث المعادية لليهود في وثيقة الماغنا كارتا التي تعتبر من المقدسات الوطنية في إنجلترا والتي صدرت عام 1215، أو أن يعود إلى عام 1290 عندما أصدر الملك إدوارد الأول “مرسوم الطرد” الذي بموجبه تم طرد جميع اليهود من إنجلترا، وذلك بعد أن عانوا على مدى أكثر من قرن من الاضطهاد على أيدي المسيحيين الإنجليز. لم يُسمح لليهود بالعودة إلى البلاد حتى القرنين السابع عشر والثامن عشر.
بدلاً من أن يدين هذا التاريخ المخزي، أخبر ستارمر جماعة “أصدقاء إسرائيل في حزب العمال”، وهي جماعة مكونة من أعضاء في البرلمان البريطاني، أنه “في اليوم الذي أصبحت فيه زعيماً لحزب العمال قبل 18 شهراً، كان أول عمل قمت به هو الاعتراف والاعتذار عن الألم والأذى الذي تسببنا به للمجتمع اليهودي في السنوات الأخيرة”. وبدلاً من الاعتراف بأن معاداة السامية هي وصمة في جبين بريطانيا بشكل عام، أعلن ستارمر بأن “معاداة السامية وصمة عار على حزبنا”. وفي محاولة منه لمحو تاريخ معاداة السامية في بريطانيا وفي حزب العمال على مدى القرن الماضي، أعلن ستارمر الآتي: “بينما نتطلع إلى الأمام، نعود إلى تراث حزب العمال.. كحليف قوي وصديق مقرب للمجتمع اليهودي منذ 100 عام”.
بدلاً من الاعتراف بأن معاداة السامية هي وصمة في جبين بريطانيا بشكل عام، أعلن ستارمر بأن “معاداة السامية وصمة عار على حزبنا”
لكن هل كان حزب العمال، ناهيك عن بريطانيا نفسها، بالفعل صديقاً لليهود البريطانيين على مدى قرن؟
يبدو أن ستارمر لا يعرف أن أحد الزعماء المؤسسين لحزب العمال كير هاردي كان معادياً للسامية، لدرجة أنه كان يعتقد أن المؤسسات المالية اليهودية كانت جزءاً من عصابة سرية دفعت من أجل حرب البور الثانية (1899-1902) في جنوب أفريقيا. وتحدث زعيم حزب العمل المؤسس البارز الآخر جون بيرنز عن مسؤولية من أسماهم بـ”الممولين اليهود” الموجودين في كل مكان، حسب كلامه، و”الذين يعملون ويوجهون ويلهمون العذابات التي أدت إلى هذه الحرب”. أما كان ينبغي على ستارمر أن يعتذر عن معاداة السامية التي عبر عنها هاردي وبيرنز؟
يخلط ستارمر ما بين اليهود والصهاينة، كما تفعل معاداة السامية التقليدية. فهو لا يلاحق معاداة السامية بذاتها في بريطانيا، بل يسعى إلى “التعرف على معاداة السامية المعادية للصهيونية ومعالجتها واجتثاثها”، ولكنه بالتأكيد لا يلاحق معاداة السامية الداعمة للصهيونية، التي اعتنقها العديد من القادة البريطانيين خلال القرن الماضي. ويناقض ستارمر نفسه عندما يدعي تارة بأن حزبه وبريطانيا يدافعان عن اليهود ويضمنان سلامتهم، ومن ثم يقترب تارة أخرى من اتهام اليهود البريطانيين – بالتهمة اللا سامية العتيدة – بالولاء الوطني المزدوج عندما يعلن أنه يجب علينا “فهم الأسباب – كيف أنه بالنسبة إلى العديد من اليهود – ستظل إسرائيل دائماً الضامن النهائي لسلامتهم”. ولكن هل بالفعل هكذا رأى اليهود البريطانيون وممثلوهم سجل بريطانيا في دعم الصهيونية تاريخياً؟
بينما كان يهود أوروبا الشرقية يفرون من المذابح المعادية لليهود إلى أوروبا الغربية في أواخر القرن التاسع عشر، قام رئيس الوزراء البريطاني آرثر بلفور، وكان صهيونياً بروتستانتياً متحمساً، برعاية قانون الأجانب لعام 1905 في مجلس العموم لحظر الهجرة اليهودية. انصب اهتمام بلفور على إنقاذ البلاد مما أسماه “الشرور التي لا شك فيها” من “الهجرة التي كانت في الغالب يهودية”. وسيصدر نفس الرجل عندما يتولى منصب وزير الخارجية بعدها باثني عشر عاماً، وعد بلفور في عام 1917. أما كان يجدر بستارمر الاعتذار أيضاً عن معاداة بلفور للسامية الداعمة للصهيونية؟
يخلط ستارمر ما بين اليهود والصهاينة، كما تفعل معاداة السامية التقليدية. فهو لا يلاحق معاداة السامية بذاتها في بريطانيا، بل يسعى إلى “التعرف على معاداة السامية المعادية للصهيونية ومعالجتها واجتثاثها”، ولكنه بالتأكيد لا يلاحق معاداة السامية الداعمة للصهيونية، التي اعتنقها العديد من القادة البريطانيين خلال القرن الماضي
بدلاً من ذلك، استخدم ستارمر أمثلة من معاداة السامية البريطانية الصارخة على أنها براهين على الدعم الفعلي الذي زعم أن بريطانيا وحزب العمال قدماه لليهود البريطانيين. فقد أعلن ستارمر أن حزب العمل كان “حليفاً وصديقاً لقضية تقرير المصير لليهود.. منذ أيامنا الأولى – حتى قبل صدور وعد بلفور – وقد دعمنا إقامة وطن لليهود في فلسطين”.
كان يجب على أحدهم تذكير ستارمر أنه حتى قبل إصدار وعد بلفور، كانت غالبية اليهود البريطانيين تعارض الصهيونية، وتذكيره بِرد وزير الدولة للهند والعضو اليهودي الوحيد في مجلس الوزراء البريطاني، اللورد إدوين مونتاغيو، على دعم رئيس الوزراء لويد جورج للصهيونية في آب/ أغسطس 1917: “طوال حياتي كنت أحاول الخروج من الغيتو اليهودي”، لكنك “تريد أن تجبرني على العودة إلى هناك”. وقد وصف مونتاغيو فيما بعد وعد بلفور بـ”المعادي للسامية”، ووصف الصهيونية بأنها “عقيدة سياسية خبيثة” من شأنها أن تروج لـ”معاداة السامية”. وأدان مونتاغيو الحكومة البريطانية نفسها باعتبارها “معادية للسامية” لاتباعها سياسة مؤيدة للصهيونية، وندد برئيس المنظمة الصهيونية الشرق- أوروبي حاييم وايزمان، الذي حصل على الجنسية البريطانية في عام 1910 عن عمر يناهز 36 عاماً، باعتباره “أجنبياً” يقوم بتضليل الحكومة البريطانية، وبتقويض وإيذاء المجتمع اليهودي البريطاني.
وقد أبدى مونتاغيو اهتماماً بالشعب الفلسطيني، وأردف أنه حتى لو تم طرد الفلسطينيين جميعاً من وطنهم لإفساح المجال للاستعمار اليهودي، فلن تتسع الدولة لجميع يهود العالم. وقد انضم إلى مونتاغيو زعماء يهود بريطانيون آخرون للاحتجاج على ما اعتبروه سياسة بريطانيا المؤيدة للصهيونية و”المعادية للسامية”، بما في ذلك عضو البرلمان السير فيليب ماغنوس، وكلود ج. مونتيفيوري، وكان من الوجهاء اليهود ورئيس الجمعية الأنجلو- يهودية وابن شقيق السير موسى مونتفيوري، ومؤسس “اليهودية الليبرالية” البريطانية، والذي أسس فيما بعد “رابطة اليهود البريطانيين” المناهضة للصهيونية في عام 1918. وقد انضم إليهما المصرفي ورئيس “جمعية الاستعمار اليهودية” غير الصهيونية، السير ليونارد ليونيل كوهين.
نشرت اللجنة الخارجية المشتركة لمجلس نواب اليهود البريطانيين والرابطة الأنجلو- يهودية، وقد كانتا أهم منظمتين يهوديتين بريطانيتين في ذلك الوقت، رسالة في جريدة التايمز موقعة من رئيسيهما، ديفيد ليندو ألكزاندر وكلود مونتفيوري، تفيد بأن “تأسيس الجنسية اليهودية في فلسطين، على أساس نظرية تشرد [اليهود] هذه، ستكون نتيجته بالتأكيد في جميع أنحاء العالم تصنيف اليهود على أنهم غرباء في أوطانهم الأصلية، وتقويض مكانتهم التي حصلوا عليها بشق الأنفس كمواطنين وأصحاب هوية وطنية في بلدانهم”. كما اعترضا على التصريحات المنشورة للقادة الصهاينة، والتي مفادها أنه “يجب الاعتراف بالمستوطنات اليهودية في فلسطين على أنها ذات طابع قومي”، ونية “منح المستوطنين اليهود في فلسطين حقوقاً خاصة معينة تتجاوز تلك التي يتمتع بها باقي السكان”.
وقد كان من بين اليهود البارزين المناهضين للصهيونية المعارضين لوعد بلفور؛ الصحفي اليهودي لوسيان وولف، والذي أيضاً خدم كرئيس الرابطة الأنجلو- يهودية.
كان بلفور يؤمن بالتفوق العرقي والفضائل الفريدة للعرق الأنجلو- ساكسوني، ولكن بصفته معادياً للسامية وإمبريالياً، كان يعتقد أن الأموال “اليهودية” الأوروبية يمكن أن تقدم الكثير من المساعدة للإمبراطورية البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى، في مقابل رعاية بريطانيا للاستعمار اليهودي في فلسطين
كما عارض سياسيون مسيحيون الصهيونية كذلك. فقد كان اللورد سايدنام، عضو حزب المحافظين في البرلمان البريطاني، يستشيط غضباً: “ليس لليهود حق في فلسطين أكثر من [حق] أحفاد الرومان القدماء في هذا البلد”، في إشارة إلى الإمبراطورية الرومانية التي أسست مدينة لندونيوم (والتي أصبحت لندن فيما بعد). وقد تساءل اللورد كرزون، زعيم مجلس اللوردات ونائب الحاكم السابق للهند: “ماذا سيحدث لأهل البلاد؟”، في إشارة إلى الشعب الفلسطيني، فقد “سكن أجدادهم البلاد منذ 1500 عام، وهم ملاك الأرض”.
على عكس التأكيدات غير التاريخية لستارمر، لم يكن الدعم البريطاني للصهيونية، بما في ذلك دعم حزب العمال، مدفوعاً بحب اليهود، بل بالأحرى بمعايير إمبريالية ومعادية للسامية. فقد كان بلفور يؤمن بالتفوق العرقي والفضائل الفريدة للعرق الأنجلو- ساكسوني، ولكن بصفته معادياً للسامية وإمبريالياً، كان يعتقد أن الأموال “اليهودية” الأوروبية يمكن أن تقدم الكثير من المساعدة للإمبراطورية البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى، في مقابل رعاية بريطانيا للاستعمار اليهودي في فلسطين. التزم بلفور أيضاً بالعنصرية البيولوجية الأوروبية، واعتقد أن اليهود الأوروبيين “شعب منفصل، وليسوا مجرد أتباع دين مختلف عن دين الغالبية العظمى من مواطنيهم”. وفي وقت متأخر من عام 1914، أخبر بلفور صديقه حاييم وايزمان بأنه يشارك كوسيما فاغنر، أرملة الموسيقار الألماني المعروف بلا ساميته، العديد من آرائها المعادية للسامية عن اليهود الألمان.
يبدو أن ما يؤكده ستارمر هو دعمه لليهود وغير اليهود من الصهاينة الذين لم يمثلوا أبداً يهود بريطانيا. فمنذ عام 1914 فصاعداً، جادل الصهاينة، ممثلين في شخص السياسي اليهودي البريطاني هربرت صموئيل – الذي بخلاف مونتاغيو، أو ماغنوس، أو مونتيفيوري، أو ألكزاندر، أو وولف لم يكن يمثل يهود بريطانيا بأي صفة – أنه بمجرد حل المسألة الشرقية بزوال الإمبراطورية العثمانية، سيملأ المستعمرون اليهود الفراغ في فلسطين لصالح أهداف الإمبراطورية البريطانية، وحماية البلاد من الاستيلاء عليها من قبل خصوم بريطانيا الإمبرياليين، لا سيما الفرنسيين، أو الألمان. وقد أصبح صموئيل، الذي كانت جهوده مركزية لتأمين الدعم البريطاني للصهيونية، أول مفوض سام بريطاني لفلسطين في تموز/ يوليو 1920.
كان حاييم وايزمان، الذي لم يكن أيضاً يمثل اليهود البريطانيين، واضحاً بشأن الخدمات التي سيقدمها اليهود الأوروبيون للإمبريالية البريطانية من خلال الاستعمار: “فلسطين هي التواصل الطبيعي لمصر وحاجز بين قناة السويس والبحر الأسود. في حالة وجود أي نشاط عدائي على هذا الجانب الأخير.. ستشكل [فلسطين] بلجيكا آسيوية، خاصة إذا كان سيتم تنميتها من قبل اليهود”. وتوقع أنه في ظل ظروف ميمونة “يمكننا نقل مليون يهودي إلى فلسطين خلال الخمسين أو الستين سنة القادمة. سيكون لإنجلترا عندها منطقة عازلة، وسيكون لدينا وطن”. كما أكد الزعيم الصهيوني النمساوي- المجري ماكس نورداو للبريطانيين في خطاب ألقاه في تموز/ يوليو 1920 في مسرح ألبرت هول في لندن حول “وعد بلفور وعواقبه” أن “اليهود لا يريدون أكثر من أن يكونوا حراس [بريطانيا] في قناة السويس. إنهم مستعدون لخدمة [بريطانيا] كحارس لطرقـ[ها] الطويلة والخطيرة عبر الشرق الأدنى والشرق الأوسط وصولاً إلى حدود الهند”.
عوضاً عن البقاء ضمن هذا التقليد الطويل الأمد للإمبريالية البريطانية ومناصرة معاداة السامية للحركة الصهيونية التي يتم تزييفها على أنها دعم لليهود البريطانيين، فقد كان الأجدر بستارمر أن يعتذر عن هذا التاريخ البريطاني وتاريخ حزب العمال المخزي في معاداة السامية ومناصرة الصهيونية
لقد فهم ونستون تشرشل جيداً الخدمات التي سيقدمها الصهاينة للإمبريالية البريطانية، ولهذا السبب دعمهم بينما كان يستخدم أشد أنواع الكراهية اللا سامية ضد اليهود غير الصهاينة. ففي مقال نشره في شباط/ فبراير 1920 في صحيفة صنداي هيرالد، كال تشرشل الشتائم والتهم على من سماهم بـ”يهود العالم” الذين يشاركون في “مؤامرة عالمية للإطاحة بالحضارة”، ويقصد “مؤامرة” الشيوعية والثورة الروسية.
وأكد تشرشل أنه “يصبح من المهم بشكل خاص تعزيز وتطوير أي حركة يهودية ذات دلالة قوية تقود مباشرة إلى اتجاه بعيد عن هذه الارتباطات القاتلة”، محدداً الصهيونية على أنها الحل الأمثل: “فعبر تناقض عنيف مع الشيوعية الأممية، تقدم [الصهيونية] لليهود فكرة قومية ذات طابع قيادي”. وتماماً كما اعتقد لويد جورج وبلفور بأن المال “اليهودي” من شأنه أن يساعد البريطانيين خلال الحرب العالمية الأولى، اعتقد تشرشل، الذي أصبح رئيساً للوزراء في أيار/ مايو 1940، تماشياً مع معاداته السامية وصهيونيته، أن دعم الصهيونية كان ضرورياً لبريطانيا، حيث أن يهود أمريكا، كما زعم، كان لهم دور مركزي في طلب المساعدة الأمريكية في دخول الحرب العالمية الثانية بينما كانت الدول العربية عديمة الفائدة.
فعوضاً عن البقاء ضمن هذا التقليد الطويل الأمد للإمبريالية البريطانية ومناصرة معاداة السامية للحركة الصهيونية التي يتم تزييفها على أنها دعم لليهود البريطانيين، فقد كان الأجدر بستارمر أن يعتذر عن هذا التاريخ البريطاني وتاريخ حزب العمال المخزي في معاداة السامية ومناصرة الصهيونية.