نقلاً عن “فلسطين اليوم”

محمد جرادات

بأس جنين الذي أطلقته كتيبتها عنواناً للمعركة في مواجهة اجتياح إسرائيليّ غير مسبوق منذ ملحمتها قبل عقدين من الزمن وضعها في مستهله أمام خيارين لا ثالث لهما، وقد سقط فيه احتمال الخيار الثالث، فلا هزيمة للكتيبة، ولا اجتثاث يلوح في الأفق. وقد استبق الإسرائيلي هجومه بتناقضات في أهدافه كشفت محدودية طموحه، بما لا يتجاوز احتواء مكانة جنين باعتبارها قلعة متقدمة للمقاومة.

إذاً، الكتيبة بوصفها الإطار الأساس لقوة جنين على الأرض خاضت المعركة في مواجهة الاجتياح، في وقت وجد الإسرائيلي نفسه يراوح بين انسحاب مذلٍّ وتحقيق انسحاب مع حفظ ماء الوجه، والفرق بين الأمرين تحدد وفق تفاصيل الميدان، فالهجوم الإسرائيلي تعثر في يومه الأول، في ظل الفشل الذريع الذي مُنيت به الغارات الإسرائيلية لسلاح الجوّ، وقد تجاوز عددها 20 غارة، ولم تفلح سوى غارة واحدة في النيل من 3 مقاتلين من مجموع 11 شهيداً تعمدت بدمهم الزكيّ أرض جنين مع عشرات الإصابات.

مرّ اليوم الأول للمعركة وقد تعثّر الميدان بكلّيته، ليجد الإسرائيلي نفسه في يومها الثاني أمام تحوّل كامل في تكتيكاتها وميدانها، بعدما احتوى شباب الكتيبة في سرايا القدس، ومعهم كل أبطال القسام والأقصى والشعبية، صدمة الهجوم الجوي والبري عبر دفاع مستميت عن حارة الدمج طوال اليوم الأول، لتنتقل الهجمات الفلسطينية طوال اليوم الثاني خلف خطوط الهجوم، ليس على أطراف المخيم الداخلية التي دخلتها قوات النخبة من الإيجوز ومجلان واليمام فحسب، ولكن خلف خطوطه حول المخيم أيضاً، ثم عبر طوق ممتد حتى سوق المدينة، انتهاءً بشوارع المدينة الداخلية والخارجية، وقد تدفقت فيها المواجهات فجأة كسيل جارف، لتتحول معه كامل منطقة جنين إلى ساحة حرب واسعة تنبض بروح المخيم المتوثبة.

وفيما كان الإسرائيليون يتحدثون عن انسحاب يجري، وعن نهاية للعملية مع انتهاء يومها الثاني، من دون بيان رسميّ، كانت الكتيبة وكل مواقعها الإعلامية تؤكد أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن الحذر سيد الموقف، وهو حذر يعكس صلابة في الميدان تتعاظم، في ظل الاندفاعة الهائلة لجمهور الكتيبة وعامة الشباب في مهاجمة قوات الاحتلال وهي تنسحب أو تعيد التموضع، فلا فرق في ميدان المواجهة.

بين انتصار الكتيبة الحاسم أو قدرتها على احتواء أهداف الاجتياح، خيط رفيع تجلّت ملامح فجره الصادق في طبيعة توقيت انتهائه، وهو انتهاء وانسحاب تحت نار الكتيبة وهي تطارد قواته طوال الساعات الأخيرة من يومه الثاني، وإن لم يخلُ هذا الانسحاب أو التموضع من مراوغة إسرائيلية مع استدارة جعلته يبدو كخديعة ما زال التحذير منها قائماً، في ظل حرص على الخروج بأيّ صورة انتصار قد تتأتى عبر اقتناص فرصة لاغتيالات أو عمليات أسر مع قوة نارية تدفع المقاومة إلى الانكفاء الميداني نحو مرابضها في الأزقة الضيقة، في محاولة فاشلة حتى الآن، وخصوصاً مع النزول التدريجي الحذر للكتيبة نحو الساحات العامة لتشارك الشعب حفل انتصاره بكل فئاته.

تواضعت كتيبة جنين في أهدافها من المعركة، وهي معركة مفروضة عليها في الأساس، فاعتبرت أن قدرتها على الصمود والقتال حتى الطلقة الأخيرة هي خيارها الوحيد، فيما تضاربت قائمة الأهداف الإسرائيلية، وقد استهلّتها بهدف الاجتياح الأساس عبر “منع جنين من أن تبقى ملاذاً للإرهابيين”، بحسب زعمهم.

تشعبت قائمة الأهداف عبر وزير الحرب يوآف غالنت ليطمح إلى إيقاع ضرر كبير بالمخيم ومقاومته، فيما تحدث الناطق باسم “الجيش” مع نهاية اليوم الأول للمعركة عن ضرب 20 هدفاً في المخيم وبقاء 10، وهو يتحدث عن الوصول إلى ما اعتبره معامل صناعة متفجرات ومراكز تحكّم وسيطرة ومراقبة للكتيبة.

تفاقم التضارب في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين على المستوى السياسي والعسكري والأمني، في وقت حاول نتنياهو وهو يحلق في سماء تخوم جنين تخريج منجزات عملية “البيت والحديقة” بالوصول إلى معامل صناعة المتفجرات، فيما نحا رئيس أركان الجيش هرتسي هليفي نحو حقائق الميدان، ملمحاً إلى فشل العملية تحت ضغط الحاجة إلى وقت إضافي، وهو وقت اكتنفه الغموض في قدرة المستوى السياسي على توفيره، عندما صرح نتنياهو أن هذا الهجوم لن يكون الأخير، وأنه لن يكون “هناك ملاذ للإرهابيين”. وقد استهل “الجيش” الأمر باعترافه ببعض خسائره البشرية وتخريج بعضها بحوادث مفتعلة.

احتواء الكتيبة هجوم اليوم الأول، رغم الغارات الجوية الاستباقية، باعتبارها صدمة عسكرية حقيقية هي الأولى من نوعها في كل المواجهات السابقة منذ عامين، بهذا الشكل، أعطى الكتيبة ميزة التفوق الميداني، رغم وجود وحدات من الشاباك في الميدان، لتوفر المعلومات بشكل مباشر لقوات النخبة التي نجحت في اختراق حارة الدمج عبر منطقة الجابريات المشرفة مع تمزيق مداخل وشوارع المخيم الأساسية بجرافات D9، والاقتراب من محيط أغلب حارات المخيم وأحيائه حتى السيطرة على مسجد الأنصار.

شكّل نجاح مجموعة من الكتيبة في تجاوز الأسر أو القتل، بعد إعلان العدو محاصرتهم في مسجد الأنصار، ثم دعوتهم إلى الاستسلام، خطوة مهمة خلقت حالة من اليأس في صفوف الإسرائيلي. وهنا، كان للأنفاق دورها الفاعل كتكتيك ميداني أخذ بعداً استراتيجياً، باعتباره الأول في تاريخ معارك جنين، فحتى في ملحمة 2002، لم يسبق للأنفاق أن دخلت في أساليب المعركة وتكتيكاتها.

استبقت الكتيبة الاجتياح بحفر سلسلة من الأنفاق، ويبدو أن ذلك تجاوز دورها في إخفاء العبوات والأكواع والمؤن والذخيرة، وهي في دائرة بدائية محلية بطبيعة الحال، لما هو استخدام الأنفاق كممرات تنقل في باطن الأزقة، وهو ما شكّل علامة فارقة في الميدان، وضعت قوات النخبة الإسرائيلية في حرج جعلها تتوقف عن الغوص في أزقة الحارات باتجاه عمق المخيم حتى الانسحاب أو إعادة التموضع.

تعثّر الزحف الإسرائيلي في عمق المخيم، مع استدارة الكتيبة لتضرب خلف خطوط الهجوم الإسرائيلي في أوجه، مع تنفيذ محكم لسلسلة من الهجمات تطورت من تفجير عبوات التامر والطارق ببعض الجرافات، ثم إعطاب عدد من الآليات، مع طلقات محسوبة، وأكواع بين الفينة والأخرى، حتى إيقاع النخبة في كمائن متتابعة ظلت تتطور تباعاً، بما دفع قوة من إيجوز إلى إطلاق دخانها الوردي الأحمر، في إشارة عسكرية اضطرارية متبعة عند “الجيش” الإسرائيلي وقت الأزمات.

تجاوزت كمائن الكتيبة مداخل المخيم وحارة الدمج، لتصل إلى عمق المدينة قرب دوار السينما وفي شارع أبو بكر ودوار الزايد وشارع الناصرة، وخارج المدينة قرب كفر ذان والسيلة الحارثية، وقبل ذلك قرب جبع ويعبد وقباطية وبرقين، بما أعاق تقدم الآليات وتحركها بالسرعة المطلوبة نحو بؤرة الاشتباك في المخيم. وقد وفّر ذلك للكتيبة القدرة لتنتقل من حالة الصمود عبر الدفاع نحو الهجوم لرسم معالم انتصار.

خرجت صواريخ غزة نحو “سديروت” في توقيت محسوب بعد انسحاب المحتل أو إعادة تموضعه، فيما وقعت عملية “تل أبيب” النوعية قبل ذلك في توقيت الذروة. وقد خرج منفذها البطل من منطقة الخليل، ليضرب الإسرائيلي في عقر غروره في تل الربيع، في رسالة ممهورة بالدم بأن جنين لن تقاتل وحدها، وأن الوحشية الإسرائيلية حافز لتفعيل إرادة الفلسطيني نحو القتال، في ملمح جديد لوحدة ساحاتٍ لم تكتمل فصولها بعد، ولكنها ساحة جنين المشتعلة على إيقاع كتيبتها تعزف لحناً لانتصار مكتمل الأركان.

Share this
Send this to a friend