خليل كوثراني
تعرّف رباب عبد الهادي عن نفسها بأنها ناشطة (مناضلة) حصّلت لقب الدكتوراه الأكاديمي كيما تؤخذ على محمل الجد ويكون صوتها أكثر تأثيراً. في السياق هذا، ومن الخلفية تلك، تواصل جهدها في مشروع «تدريس فلسطين»، وهي تحاجّ، في اهتمام بحثي جديد للبرنامج، بأن جثامين الشهداء المحتجزة لدى الاحتلال الإسرائيلي ممكن أن تكون، على طريقة الأرشيف الحي والشفوي، أرشيفاً مجازاً علمياً. عبد الهادي، مديرة برنامج «AMED» (البرنامج الأكاديمي لدراسات الجاليات العربية والمسلمة) في جامعة ولاية سان فرانسيسكو، تتحدّث في هذا الحوار عن قضية الجثامين المحتجزة ودور المعرفة ودراسات إزالة الاستعمار في القضية، وتتطرّق إلى الواقع السياسي للأكاديميا في الولايات المتحدة، وهي التي تتلقّى على الدوام مضايقات الصهاينة
انضم خضر عدنان إلى لائحة طويلة من الشهداء المحتجزة جثامينهم. عشرات الأجساد، أو المئات، تتوزع على البرادات ومقابر الأرقام منذ سنوات، ويُحرم ذووهم من دفنهم. ماذا يعني أن الاحتلال، كفعل إبادة أو سيطرة ومحو وإزالة، لا يكتفي بإنهاء حياة الفلسطيني؟ من يَستهدِف هذا العنف، ولماذا؟
– هناك ما لا يقل عن أربعمئة جثمان. هدف تلك السياسات: أولاً، العقاب الجماعي. وثانياً، كسر شوكة الناس؛ «كسر رأس» ومعنويات المناضلين والمناضلات، ومن ثم كسر إرادة الشعب بأكمله وتخويف أهالي الشهداء والأسرى لكي يضغطوا على أبنائهم وبناتهم فيستسلموا. عندما كنّا، أنا وإخوتي، نخرج في تظاهرات، كان شبح هدم الدار ماثلاً أمامنا دائماً.
مقاومة خضر عدنان كانت مقاومة سلمية، احتجّ الشهيد على قوانين الطوارئ الجائرة من عهد الاحتلال البريطاني، وهي خرق لكل حقوق الإنسان، فأضعف مؤسسة حقوق إنسان تقول ذلك، حتى الخارجية الأميركية تقول إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته؛ فكان الشهيد الحاج خضر عدنان من خلال خوضه معركة الأمعاء الخاوية يطرح سؤالاً للجميع بقصدِ تسليط الضوءِ على ظلم هذه القوانين: قولوا لي ما هي تهمتي؟ أين لائحة الاتهامات؟! من ناحيتهم، حاول الصهاينة المس به وسلّحوا/استخدموا الخطاب العنصري، المُعادي للمسلمين والعرب للنيل من عدالة نضاله فركّزوا على انتمائه إلى حركة «الجهاد الإسلامي» وكأنها تهمة حتى يجردوه من إنسانيته وحتى محو مهنته كفرّان مثلاً، يخبز الخبز، خبز الناس، ليبرروا تصرفاتهم اللاإنسانية التي تتسم بالعنف الاستعماري الممنهج والاستبدادي. إنَّ كَسر إرادة الشّعب مَهمة مركزية لسلطات الاحتلال لأنه أضحى رمزاً للصمود والمقاومة بأشكالها كافة.
تتشابه أساليب الصهاينة في كل السياقات مع استراتيجيات الاستعمار الاستيطاني العنصري الإحلالي القلعي، حيث إنهم يهدّدون بفرضِ الخنوع، والخضوع، والاستسلام، والانهزامية. فيبذل جنرالات الجيش الإسرائيلي قصارى جهدهم حتى يحاولوا غسل أدمغة أبناء الشعب الفلسطيني لإقناعهم بأنهم مهزومون. لُبّ رسالة الحركة الصهيونية للشعب الفلسطيني أنكم يجب أن تستوعبوا في عرق دمكم، في عصبكم، أنكم شعب مهزوم. لأنه بمجرد أن يفقد الشّعب الإرادة على الاستمرار والصمود فإن الاستعمار يحقق أهدافه.
في كل الأعرافِ والأديان، إكرام الميت دفنه، حتى لدى من يحرق الجثمان، وذلك حتى تحظى عائلة الميت براحة البال رغم ألم الفقدان. لنا فقط أن نتخيل كَمّ الألم الذي تعانيه أُسر الشهداء. لقد التقينا أمس أمَّ الشهيد ناصر أبو حميد، لنا فقط أن نتخيل كمّ الحزن الذي تجاريه أم الشهيد وعائلته، فمن ناحية أخرى، هم لا يريدون أن يظهروا مهزومين ومنكسرين فبذلك يمنحون المستعمر المسيطر ورقة ضغط بمُجرد أن يُقرّوا بضعفهم ويعترفوا بالألم، ومن ناحية أخرى هذه مشاعر إنسانية حقيقيّة وطبيعيّة ولكن غير مسموح للشعوب المستعمَرة أن تعبّر عنها حتى لا يظن المستعمِر أنه انتصر.
رسالة الاحتلال إذاً، أن يَكُفَّ الشّعب الفلسطيني عن مُقاومته وأن يشعر المتضامنون معه بأن قضيته خاسرة.
كدارسة للاستعمار، ولا سيما في سياق سياساته الاجتماعية، ما الذي تضيفه إجراءات الاحتلال تجاه جثامين الشهداء على الطبيعة المائزة للاستعمار الصهيوني مقارنة بباقي تجارب الاستعمار؟
– ثمّة جوانب تشابه تجارب الاستعمار في سياقات أخرى. عندما ندرس مسألة الاستعمار، نفرّق بين الاستعمار الكلاسيكي والاستعمار الاستيطاني الإحلالي الذي تُعدّ قضية «الإبادة» جزءاً من تركيبته، إذ هو لا يمكنه أن يثبت أنه صاحب الأرض ما لم يتخلّص من أهلها.
ثمّة، أيضاً، لدى المستعمِر، «لذّة» في ضرب المستعمَر، وفي أن يأخذ معه «تذكاراً» من ما يقوم به. في أميركا الشمالية، أو جزيرة السلحفاة حسب تسمية السكان الأصليين، كان المستوطنون ينزعون جلدة رأس المحاربين من أهل البلاد الأصليين بعد قطع رؤوسهم، يأخذونها كغنائم حرب، يعلّقونها في بيوتهم، كمثال وإثبات مادي، ويتباهون بها. هكذا كانوا يفعلون في أميركا عندما يشنقون الرجال السود في وضح النهار في إطارِ الإعدام الخارج عن القانون الرسمي، حيث كانوا يأخذون أولادهم في ما يسمّونه «النزهة» ليتفرجوا على قتل الناس لتنمية غريزة القتل فيهم.
عظام أهل البلاد الأصليين لا تزال موجودة في المتاحف الأميركية. وفي الجزائر، سلّم الفرنسيون السنة الماضية 24 جمجمة لمقاتلين جزائريين من أصل آلاف الجماجم التي لا يزالون يحتجزونها. وقد يبيّن مالك علولة في كتابه البطاقات البريدية التي كان يرسلها السياح الفرنسيون من الجزائر إلى فرنسا، فيها مثلاً نساء عاريات، تُؤخذ صورهن رغماً عنهن كتذكار سياحي!
كذلك في جنوب أفريقيا حيث كان الاستعمار استيطانياً عُنصرياً، فإننا نذكر قصّة سارة بارتمان، التي حتى بعد وفاتها، أخذ المستعمرون الفرنسيون أعضاء جسدها وعرضوها في المتاحف ولم يتم دفنها بشكل مُشرّف حتى قضَت جنوب أفريقيا على نظام الفصل العنصري السياسي وطَالب حينها نيلسون مانديلا الحكومة الفرنسية بإعادة رفاتها لدفنها وفعلاً دُفنت في مدينة كيب تاون وهناك نصب تذكاري لها.
يوهمونَ العالم بأنهم من «يكشف» عن هذه الأحداث وهذه طبيعة إنتاج المعرفة ضِمن المنظومة الاستعمارية. فمثلاً في الطنطورة، يزعمون أنهم يعلمون ما حصل هناك بالتفصيل وقد كان أهل الطنطورة قد أدلوا بشهاداتهم حتى إن الكاتبة المصرية الراحلة رضوى عاشور كانت قد وثّقت ذلك في كتابها «الطنطورية» ولكن نظام إنتاج المعرفة الاستعمارية فقط استخدمَ مخرجاً إسرائيلياً كي «يوثق» ذلك في فيلم وثائقي، وتم نسيان وتجاهل كل السرديات الوطنية الفلسطينية والعربية المناهضة للاستعمار التي سبقت الرواية الاستعمارية بشكل مُمَنهج.
من سماتِ الاستعمار الاستيطاني البنيوية أنه يدمّر ويحتفظ بتذكار في آن واحد، ما يُوقعهُ في مأزق من ناحية إنتاج الفكر والمعرفة؛ فمن ناحية أخرى لديك أدلة. العظام هي أدلة. نقول في مشروعنا الجديد في «تدريس فلسطين» إن العظام أرشيف أيضاً وليس فقط الورق الأصفر القديم فحسب. العظام أرشفة، أرشفة ظلم ووحشية وعنف الاستعمار. وهي أرشيف كونها أدلة مادية على صمود ومقاومة الناس. وإلّا، لماذا يحتجزون العظام؟ لماذا يدفنونَ الشهداء في مقبرة الأرقام؟ ويجدر الذكر هنا أنَّ الطرف الوحيد الذي يعرف من هو المدفون، وأين، هو الاحتلال.
أود التذكير بأنَّ الأرشفة، تاريخياً، هي جزء من منهجية الاستعمار. ويُقال إن أفضل الأرشيفات المتوفرة هو أرشيف المستعمِر وهذه نظرة تقليدية وأعتبِرُها استعمارية، إذ بيدِ السلطات الاستعمارية أن تسمح بنشر وثائق قديمة. ولكن المعرفة المطلوبة هنا هي معرفة ضد الاستعمار باتجاه «إزالة الاستعمار» وتفكيك المعرفة الاستعمارية، لا أؤمن بدراسةِ «ما بعد الاستعمار» لأن الاستعمار ما زال موجوداً وتبعاته كذلك. دعونا نُحلّل ما هي الدراسة المقبولة حالياً في أوساط إنتاج المعرفة التي يهيمن عليها الفكر الاستعماري. فعلى صعيد فلسطين هناك مسافة زمنية يجب الالتزام بها لتعتبر الدراسة «موضوعية» و«أكاديمية» لذا أُحاجُّ أنَّ الفلسطيني الجيد -لديهم- هو الفلسطيني الميت. فوفقاً للمُستعمِر ممنوع مُطلقاً، ضمناً وتطبيقاً، الحديث عن التاريخ الحديث أو ما نسميه بالأرشيف الحيّ ولا سيما إذا ما كان يخُصّ أناساً أحياء. ولهذا حاربتنا قوى اللوبي الصهيوني وإدارة الجامعة المتواطئة معها كي تفرض «الفيتو» على المحاضرة المفتوحة التي نَظمتُها مع د. تومومي كينوكاوا والتي كانت عبارة عن جلسة حوار بين ليلى خالد ومناضلين ومناضلات من جنوب أفريقيا وقيادات الحركة الأسيرة السوداء والفلسطينية.
ويمكن التنويه هنا إلى أن تَبعات هذه الهجمات تَخلق رقابة يفرضها الأكاديميون على أنفسهم حتى لا يتكلّم أحد عن ما يحدث اليوم أو في الأمس القريب، بينما أضحَت دراسة ثورة 1936 والفدائيين مقبولة، هذا بالطبع لا ينطبق على انتفاضة الأقصى التي بالكادِ يتم الخوض فيها، إذ فور ما يتم ذلك تحِلُّ الفوضى وتعمّ حالة من الرفض وخصوصاً عندما تُقارن بانتفاضة الحجارة التي تُصوّر على أنها انتفاضة «حضارية» سلمية وبالتالي مقبولة لدى الغرب. إذاً ممنوع أن يتحدّث المستعمَر عن نفسه لأن ذلكَ يخرّب رواية المستعمِر. وهذا هو الإرهاب الفكري برُمّته –فرض الرواية السائدة، لا رواية المقاومة. ولكنهم في مأزق لأنهم يفقدون السيطرة على الرواية ولهذا هم يستشرسون في هجماتهم علينا.
يتوزع هذا العنف، أي إخفاء الجثامين، بحق حرمة الجسد وبحقوق ذويه، على أجساد مختلفة، نساء وقاصرين وأسرى ومقاتلين شهداء، هل في رأيك الحالةُ واحدةٌ هنا مع الجميع من حيث نوع العنف وتوصيفه الاجتماعي والقانوني ووظيفته؟
– نعم ولا. لا، لأن لكل حالة قدراً مُعيناً من الخصوصية ولا أُشير هنا إلى الخصوصية الاستثنائية بمعنى الاستثناء الذي لا يمكن تعميمه. ثمّة خصوصية لِكُل واقع، ثمّة خصوصية للفدائي، وهذا الذي أثار التساؤلات حول الشهيد خضر عدنان الذي كان مضرباً عن الطعام.
نعلم، ولا نتفهّم، إذ لا يُمكن تبرير أسباب احتجاز عظام الشهداء ما يزيد عن أربعين سنة، فمثلاً جثمان وعِظام الشهيدة دلال المغربي ما زالت محتجزة منذ عام 1978، وهناك قبلها وبعدها ممن احتُجِزَ في مقبرة الأرقام. هل يُعقل أن يكون كل ذلك، كما يدّعي قادة الصهاينة، من أجل المقايضة فقط؟ فهم سبَق أن قايضوا من قبل. كان من المُفترض أن يسلموا رفات الشهيدة دلال المغربي في عملية التبادل عام 2008، حين طالبت المقاومة بجثامين الشهداء ولكنهم كذبوا كعادتهم وقالوا إن هناك خطأ في فحص الـ «دي إن إيه». كُل ذلك كذب، كُل ما يمارسونه ممنهج وليست فيه استثنائية أو خطأ أو أمر عابر.
في عام 2016، نظمتُ أوّل وفد أسرى محررين من الولايات المتحدة، من حركة الفهود السود وغيرهم من الحركات المناهضة للاستعمار الاستيطاني، إلى فلسطين، التقينا بأُناسٍ كثيرين ومنهم المحامي محمد عليان، والد الشهيد بهاء عليان، الذي هزّت إفادته أعضاء الوفد، بمن فيهم مَن كان مطارداً من السلطات الأميركية لعشر سنوات ومتخفّياً تحت الأرض، مِنهم أسيرة محررة أخرى قضت 14 عاماً في السجن، فنحن لا نتحدّث عن أناس خرجوا أمس فقط في تظاهرة وسُجنوا فحسب، هؤلاء لديهم باع طويل في النضال؛ وقفَ الجميع مشدوهاً وأبو بهاء يتحدّث عن ابنه الذي لا يدري كيف حاله في الثلاجة بدرجة حرارة 500 تحت الصفر: «بدّي أدفن ابني». كتبت زميلة مقالاً عن الموضوع في «مونثلي ريفيو برس»: وعندما تسلّم محمد أخيراً جثمان الشهيد بهاء عليان، منعت سلطات الاحتلال بأن يحضر أكثر من 25 شخصاً مراسم الدفن التي أصرّ الاحتلال أن تكون في منتصف الليل، كما تم منع حضور الصحافة والإعلام.
يقولون إنهم أخطأوا في رفات دلال المغربي، علماً أن الاستعمار يَدّعي أنه محترف. كما تكلم غرامشي عن سياسة الهيمنة، وهي ليست بالضرورة بالسلاح، يصبح المستعمَر والمستعمَرة يقتنعان بأفكار المستعمِر ويشككان في نفسيهما – ظاهرة استعمار العقول كما وصفها فرانز فانون وكما نسميها بالعامية «عُقدة الخواجا» أساسية في جدلية السيطرة، تجعل الناس يلتزمون بما تريد، تبدو السلطة بعيدة وتتحول العلاقة إلى خوف من شبح، بلا حاجة إلى واسطة ولا سلاح يفرض الأمر الواقع، مع العلم أنه ليس هناك شكل واحد للهيمنة، فمن المحتمل أن تجتمع وتختلط أشكال وأنواع الهيمنة العسكرية المباشرة وغير المباشرة كما يتم في فلسطين وكلتاهما تستندان إلى العنف الجسدي والمكشوف والعنف الفكري و«الخَفي». هُم كاذبون. لديهم آلية إعلامية هائلة. فعندما تفلت صور عن احتفال المستعمرين بضرب وتعنيف المستعمَر، هذه ليست صدفة. عندما يجلسون في سديروت ويتفرجون على القنابل التي تسقط على غزة، وقد فعلوها في عام 2014 وهو ما كتبتُ عنه في مجلة الدراسات النسوية في عدد خاص عن الاستعمار الاستيطاني، حول هذا «الاحتفاء بالموت». عندما يتخرّجون من الجيش الإسرائيلي ويلبسون قميصاً يحمل صورة فلسطينية حامل، مكتوباً عليها: «طلقة واحدة… هدفان»، هل هذه مزحة، لا علاقة لها بهدف «الخطر الديموغرافي»؟ صدفة؟ لا أعتقد ذلك على الإطلاق. هذه كلها جزء من لعبتهم الإعلامية الممنهجة والمقصودة.
بدأتم في مشروع «تدريس فلسطين» بالاهتمام بملف الجثامين المُخفاة قسراً، ما هو دور المعرفة في قضية كهذه؟
كباحثة، أسّست «تدريس فلسطين» من خلال مشروع «AMED»، وهذا مشروعي البحثي، ومن خلاله توصّل البحث إلى أن معالجة هذه القضية في غاية الأهمية، وهي لها علاقة ببحثي التاريخي عن قضية المرأة، ودلال المغربي، والفدائيات ودورهن.
بدأت في «تدريس فلسطين» في عام 2016 خلال الذكرى العاشرة لجدارية إدوارد سعيد، بالتزامن مع الاحتفال بمرور خمسين سنة على أطول إضراب طالبيّ في تاريخ الولايات المتحدة، قامت به منظمة الطلاب السود وتحالف طلاب العالم الثالث المدعومين من جماعة الفهود السود.
كان همّي حينها أن أُسائل كل من يتحدّث عن عام 1967 كالذكرى الخمسين للاحتلال، أين أنتُم مِن النكبة؟ وعد بلفور؟ حق العودة؟ انتفاضة الحجارة، حصار غزة، صبرا وشاتيلا… كان الهدف أن لا تسقط أي قضية من قضايا مكوّنات الشعب الفلسطيني وأن يتم ربطها بإنتاج معرفي غير مُبسط، يطرح مسائل بحثية جدّية. يهمّني التأريخ، التأريخ من وجهة نظر المقاومة، لا أن تكون رواية الاستعمار هي الأساس المعرفي الذي يفرض علينا الإجابة على أسئلة المُستعمِر. ربما لن ننجح في تصحيح جميع المصطلحات والتعابير على المدى القصير، لأن ثمّة تاريخاً استعمارياً طويلاً للغة، الإنكليزية لغة استعمارية. لكن دُعيت، مثلاً، إلى البرلمان الفرنسي للحديث عن وعد بلفور، بتنظيم من الشيوعيين الفرنسيين، دعوني وجوزيف مسعد وإيلان بابي وألان غريش وطرحنا هذه المسائل ومن ضمنها رفض استخدام مصطلح الانتداب بل الإصرار على تسمية الأمور بأسمائها واعتماد «الاحتلال» البريطاني وغيرها.
في مسألة التدريس، هناك من يُعلّم ومن يَتعلّم؛ لدينا مشروع «الصفوف المفتوحة»، كل من يود أن يحضر، أهلاً وسهلاً به، وقد احتجّت عليه إدارة الجامعة لأنه يُناقض فرض رسوم التعليم ونحن بدورنا نؤمن بحق التعليم المجاني للجميع. توفّر الصفوف المفتوحة لنا إمكانية إبراز من نسميهم بالأرشيف الحي، بالناس الذين لديهم روايتهم المباشرة. مثلاً، في إضراب الطلاب السود في الستينيات اعتُقل 800 شخص، بينهم الممثل الشهير داني غلوفر، المتضامن مع فلسطين، وقد حضر لمشاركتنا روايته، هكذا عبر حوار الأجيال ننقل التجارب إلى الشباب الذين سيقودون حركة التغيير فيتعلّمون من الأخطاء والتجارب. بعدما قتلت الشرطة جورج فلويد، أقمنا ندوة «حياة السود، تحرير السود، وشمولية العدالة»، حضرتها أنجيلا ديفيس وروبين كيلي وبيفيرلي غاي-شيفتال وآخرون، حضرها 15 ألف مشارك رقمياً. بالطبع، أزعجت هذه الندوة، وغيرها من الأنشطة عن فلسطين الصهاينة الذين يحاولون تكميم الأفواه وتجريم تدريس فلسطين.
شعارنا هو أنه لا ملكية خاصة للمعرفة، المعرفة للجميع. ونريد صناعة المعرفة لأننا نريد التحرير، تحريرَ شعبي، تحرير كل الشعوب المضطهدة، وتحقيق العدالة للجميع. ما أقوم به هو التورّط: التورّط في المحاسبة والمسؤولية أمام شعبي، لا لأجل الترقيات من الإدارة.
المشروع أولاً هو الطرح نظرياً أن العظام «أرشيف مجاز» للبحث العلمي، لكن ليس كما يطرحه المستعمِرون، الذينَ يذهبون إلى المتاحف ويقيسون العظام. كانوا يفعلون ذلك، يقيسون جمجمة الأسود ويزعمون أنه أقل تطوراً من جمجمة الأبيض. وثمّة من يدرس العظام أركيولوجياً وأنثروبولوجياً…الخ، أنا أقول إنّ في هذه القضية أدلّة على التاريخ، أدلة على عنف المستعمِر. دافِعي هو قضية التحرر قبل التقدم والإنجاز الأكاديمي.
عندما ذهبنا العام الماضي إلى المكسيك، من المنتدى الاجتماعي الفلسطيني للمشاركة في المنتدى الاجتماعي الدولي، كان هناك زميل يهودي مناهض للصهيونية من بروكلين يعيش في المكسيك، سُحبت منه الجنسية الأميركية، أخذَنا على متحف مخصص لتاريخ المفقودين ولأم فقدت ابنها إبّان الحكم الاستبدادي، وأقامت حملة كبيرة أدّت إلى اعترافهم باحتجاز ابنها. وهذا يشابه تكتم إسرائيل لفترة طويلة على مقابر الأرقام، لكن حملة الأهالي فرضت نفسها وانتزعت المعلومات بنفسها. لا يضيع حَق وراءه مطالب.
يوجد في أميركا اللاتينية الكثير من المفقودين، فنحن لسنا حالة خاصة أو استثنائية. علينا أن نفكّر في «شمولية العدالة» ولا سيما عندما ننظر إلى حركات التضامن التي تحوق بها ضغوط الصهيونية في أميركا. وهذا ما أحاول فعله مع الطلاب في جامعة سان فرانسيسكو، مثل المكسيكيين، حين أستمع إلى همومهم وملاحظاتهم. صمّمنا صفاً اسمه «مقارنة الحدود ما بين المكسيك وفلسطين».
هناك قضية الـ 43 طالباً وطالبة من المشاركين في التظاهرات، الذين اختفوا في المكسيك قبل سنوات، وقد تبيّن أن الشركة الإسرائيلية صاحبة «بيغاسوس» تتجسّس على محاميهم وكل من له علاقة بالقضية. في تشيلي، من عام 1973، منذ الانقلاب على سلفادور ألندي بمساعدة «سي اي ايه» وتنصيب الدكتاتور بينوشيه، اختفى كثيرون. في الأرجنتين، هناك حركة كبيرة اسمها «أمهات ساحة مايو» – الأمهات اللواتي يطالبن بجثامين أبنائهن منذ احتجاجات مايو 68. ليست كل القضايا واحدة وبنفس المعايير، نقوم بالمقارنة والدراسة، لكن هناك قضايا مشتركة، وهذا ما نعنيه بعدم تجزئة العدالة، والذي يخلق حالة عالمية أممية ليناضل الناس معاً وليفهم بعضُهم بعضاً ولا يظل التركيز على الفلسطيني فقط. مهم أن يعي شعبنا أنه ليس وحده وهو شرط ضروري لاستمرارية المقاومة.
يقولون إنّ هذا كلام عاطفي وليس بحثاً علمياً، ذلك لأن الاستعمار لا يريد أن يسمع أنّات المستعمَر، فيطالبوننا بالعقلانية وكأنّ هناك تناقضاً بين المسألتين. إضافةً إلى ذلك، إذا استهدفتَ كل شيء في حياتي، فكيف لا أكون عاطفياً؟ كيف لا أغضب؟
كأكاديمية في الولايات المتحدة، تعرضتِ للكثير من مضايقات الصهاينة. لكن ألم يتراجع هذا المناخ العدائي في الآونة الأخيرة؟
-بالعكس، الأسبوع الماضي قامت فاطمة، الفتاة اليمنية، بإلقاء كلمة في كلية الحقوق بجامعة نيويورك، ها هُم يلاحقونها بالتهديد، وأنا تأخّرت على موعد هذه المقابلة لأنّي كنت أنظّم نشاطاً تضامنياً معها.
بالعكس، الوضع أسوأ، لماذا؟ الحركة التضامنية واسعة جداً، بالفعل الصهاينة لديهم أزمة حقيقية، رغم كل شيء، أزمة في الرأي العام. هم غير قادرين على تبرير أنفسهم؛ كانوا يقولون تاريخياً «إسرائيل وطن لليهود الهاربين من الهولوكوست»، خرج كثير من الناجين من الهولوكوست قالوا لا نريد إسرائيل، من أينشتاين إلى حنة أرندت، قالوا لهم لا تتحدثوا باسمنا. لذا هم الآن مستشرسون أكثر.
تقدّمت بمشروع «تدريس فلسطين» للإجازة الأكاديمية ثلاث مرات ولكن إدارة الجامعة رفضته وطالبتني بألّا أستخدم اسم الجامعة ولا برنامج «AMED» الذي أديره لمؤتمرين ووفود إلى لبنان وتونس في أيلول الماضي لإحياء ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا واجتياح لبنان وحصار بيروت إضافة إلى مناسبات أخرى كالذكرى الخمسين لاستشهاد غسان كنفاني والخامسة عشرة لحصار غزة والعشرين لاجتياح المدن الفلسطينية ومجزرة مخيم جنين. ولكنّي رفضت هذا التحذير التعسفي واستمررتُ في مشاريعنا واتّضح لي عبر نقابة الأساتذة أنه لم يشهد تاريخ الجامعة أن فرضت الإدارة على أي أستاذ أن يأخذ «إذناً» بالمبادرة أو عقد نشاطات أكاديمية من قبل. طبعاً كوني ترعرعت في ظل الاحتلال، فهمتُ جيداً ما تحاول الجامعة القيام به وما هو إلا تجريم تدريس فلسطين وتفكيك البرنامج الأكاديمي لدراسات الجاليات العربية والمسلمة في المهجر لأننا ملتزمون بإنتاج المعرفة من أجل العدالة. وبعكس مُضايقات الجامعة المتحالفة مع القوى الصهيونية حول تدريس فلسطين، فقد وافقت الإدارة على إجازتي الأكاديمية حول «تعليم الجندر والجنسانية» وهذه لعبة الأنظمة الاستعمارية التي تحاول استعمال تحرر المرأة كبديل عن التحرر الوطني وتطرح صيغة استشراقية عنصرية تستند إلى الإسلاموفوبيا وما أسميه بـ«النسوية الاستعمارية» أو «الحريم الاستعماري» حسب مالك عاولة.
رغم قدراتهم وإمكاناتهم الهائلة، فقد حقّقنا مجموعة من الانتصارات تمثّلت أخيراً بحصولنا على ثلاثة اعترافات من اللجان الأكاديمية بالظلم الذي يلحق بنا مع إقرار بالتواطؤ مع الصهاينة وضرورة الاعتذار والتعويض بما فيه إلغاء صف ليلى خالد. هذا بحدّ ذاته وضعهم في مأزق، ماذا يفعلون بنا؟ على إثر ذلك، قامت رئيسة الجامعة بممارسة حق النقض «الفيتو»، كما تفعل أميركا في مجلس الأمن، ولكننا قدّمنا استئنافاً. والآن يحاولون إجباري على الاستقالة. وفي أوائل أيار نشرَ ديفيد هوروتس، أحد قياديّي أكبر المنظمات الصهيونية في أميركا، قائمة بأكثر الأساتذة «كرهاً لإسرائيل»، ترأّس اسمي القائمة.
ولمعاقبتي على رفض سياسات تكميم الأفواه ومحاربة محاولاتهم كافة لتجريم «تدريس فلسطين»، تحاول الجامعة حالياً شطب مساقاتي عن «فلسطين» و«الإمبريالية والاستعمار والمقاومة» وإجباري على تدريس مساقات ليست من اختصاصي وذلك لفرض حقائق على الأرض، تماماً كما يفعل الاحتلال في فلسطين، وكذلك يحاولون استخدام الاستراتيجية الاستعمارية «فرّق تسد» لشق الصف بيني وبين زميل فلسطيني جديد، ولكني مدركة تماماً لأهدافهم وألاعيبهم وبالتالي أرفض أن أتعامل معهم على هذه الأسس بل أصرّ على التعامل المبدئي والشفافية، وأقول بالنهاية إنَّ مرجعيتي ومحاسبتي تأتيان من شعبي وجماهيرنا، وليس من إدارةٍ متواطئة مع المشروع الصهيوني.
نحن لا نكترث لسمومهم ونستلهم نَشاطنا الأكاديمي والفكري والتدريسي والنضالي من الملاحم التي ترسمها شعوبنا إن كان في تحرير الجنوب أو في المقاومة في فلسطين. لست قلقة لأن كل الهجمة لا تؤثّر فيّ ولا تجعلني أتراجع.